السؤال
السلام عليكم.
الحبيب الدكتور محمد عبد العليم، تحية طيبة.
أحببت سؤالك عن أفضل نظريات التعليم، مستوضحا في الوقت نفسه عن مفهوم المقاربة بالكفاءات، فما هو؟ أكثرنا مر بتجربة التعليم التقليدي ولم ينتفع منها سوى بالوظيفة، ولكن كما يقول آينشتاين أن التعليم الذاتي يعطيك عقلا، وعليه فأنت كبروفيسور رائد ما نصيحتك لي لكي أختار لأطفالي نظاما تعليميا خاصا، وأي نظرية تشجعني عليها؟ وهل النظرية البنائية مقبولة عندك، أم هناك مستجدات في الواقع اليوم؟
جزاك الله خيرا، وأنت دائما محل ثقتي المطلقة فمعرفتي بمواضيعك قديمة جدا، بل لا أنكر أنني تشبعت فكريا بالمعارف التي قرأتها عنك، حفظك الرحمن ورعاك.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عاطف حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أشكرك على إحسانك الظن بي، وقد سألت عن عظيم، وإني -إن شاء الله تعالى- من خلال إطلاعاتنا وما سوف نذكره لك تستطيع أن تختار المسار الذي تريده لأبنائك.
طبعا المسار التعليمي يعتمد على البيئة وعلى الدولة التي يعيش فيها الإنسان، لأن النظم التعليمية أيا كانت قد وضعت من خلال التربويين وعلماء المناهج ولا شك في ذلك، ولا يمكن للإنسان أن يفصل لنفسه أو لأبنائه تعليما مختلفا، لكن قد تكون هنالك خيارات عديدة في نفس الدولة ويختار الإنسان ما هو أنسب له منها.
التعليم التقليدي: لا نستطيع أن نقول أنه كله سيء أبدا، والتعليم التقليدي -كما تعرف – له مكونات ثلاثة، هذه المكونات هي (المعلومة، والطالب، والمعلم)، نعم هو قد لا يتيح فرصة كبيرة للتعليم الاستنباطي والتعليم الإبداعي، لكنه أيضا هو تعليم منضبط ولا شك في ذلك، وهنالك من يرى أن أحسن المناهج هي التي تجمع بين التعليم التقليدي والتعليم الحديث، الذي يعتمد في الأساس على التكنولوجيا ونظم المعلومات.
عموما: بالنسبة لمفهوم المقاربة بالكفاءات: حقيقة هو أسلوب يساعد على تحقيق وبناء كفاءات لدى المتعلم، مثلا القدرة على التحليل، القدرة على التركيب، القدرة على التطبيق، القدرة على التقويم، القدرة على الاستنباط، وهنالك شيء من استقلالية الذات بالنسبة للطالب، يعني: أن التعليم ليس تعليما ميكانيكيا آليا، على العكس تماما هو تعليم يتيح حقيقة الفرصة للإبداع وللتفكير.
بالنسبة للنظرية البنائية: حقيقة العالم النفسي السويسري المعروف (جان بياجيه Jean Piaget) الذي طور هذه النظرية - وإن كانت ليست جديدة – حتى (أرسطو Aristotle) أعطى تلميحات عنها، بياجيه يتميز بأنه كان شديد الملاحظة، ونظريته قامت على الملاحظة وسط الأطفال، حتى كان يلاحظ ما يدور في مخيلة أطفاله، وهذه النظرية قطعا تساعد الطفل أن يكون نشطا في أنماط التفكير لديه، وذلك نتيجة لتفاعله من خلال قدراته الفطرية مع بيئته والخبرة التي اكتسبها من البيئة، فإذا الطالب هنا دوره دورا نشطا، وليس سلبيا يعتمد على التلقي من بيئته.
أنا أرى أن النظرية البنائية نظرية ممتازة، وطبقت في الجزائر منذ عام 2003، وحسب ما أعرف أن نتائجها كانت جيدة جدا، وكانت مفيدة، وهنالك دول مثل فنلندا أيضا قد طبقت هذه النظرية.
الدول تختار لنفسها ما تراه مناسبا، مثلا في سنغافورا من أمثلة الكفاءات الأساسية التي يعتمد عليها التعليم: مهارات التواصل، بناء الشخصية، مهارات إدارة الذات، مهارات اجتماعية وتعاونية، مهارات التفكير والإبداع، الكفاءة اللغوية والكفاءة العددية، مهارات المعلومات، مهارات التطبيق المعرفي، ومثلا في دولة مثل ناميبيا، وهي دولة إفريقية تعتبر من دول العالم الثالث، الكفاءات الأساسية التي تطبق في التعليم هي مهارات التعلم، ومهارات الشخصية، والمهارات الاجتماعية، والمهارات الإدراكية، مهارات التواصل، المهارات العددية، وتكنولوجيا المعلومات، والاتصالات.
هذه مجرد أمثلة من أحد الدول المتقدمة جدا، وهي سنغافورا والأخرى هي دولة ناميبيا.
لابد أن أضيف أشياء مهمة جدا في النسق التعليمي أيا كان، وهو: أن دور المدرسة وبيئة المدرسة، لا بد أن يكون محفزا للطالب لتطبيق هذه النظريات، إن كانت النظرية البنائية أو غيرها، وهي نظرية ممتازة ولا شك في ذلك، لكن إن لم يكن للمدرسة ذاتها المقدرات لتطبيق هذه النظرية، فهنالك سوف تكون المشكلة، ومشكلة كبيرة، أو إذا كان الوالدين أو البيت بصفة عامة لا يهيء البيئة التي تتناسب مع تطبيق هذه النظرية أيضا، سوف يجد الطفل نفسه في وضع لا يستطيع أن يتكيف معه مما يعيق كثيرا في مقدراته الإدراكية والمعرفية والتعليمية.
هنالك أيضا أسس ضرورية جدا يجب أن نستصحبها في تعليم أولادنا: أولا الطفل يجب أن يعرف لغته ودينه، وهذا إما أن يكون عن طريق التعليم المنتظم - التعليم الأكاديمي المدرسي - أو عن طريق المنزل، أو كليهما، وأنا أحبذ حقيقة دور الوالدين يجب أن يكون نشطا وفعالا في هذا السياق، لأن الوالدية أيضا تمثل النموذج والقدوة التي تحتذى بالنسبة للطالب، وهنا تكون القدرة الإدراكية للطالب أفضل كثيرا.
أيضا الطفل يجب أن يتعلم أن يحترم الكبير، هذا بكل أسف في كثير من المدارس قد لا يتم الاهتمام به، لكن مثلا نجد في اليابان، في الهند؛ هذا أمر أساسي جدا في السنوات الأولى للطفل في المدرسة، حتى في اليابان الأطفال يتعلمون كيف يغسلون أقدام معلميهم، كمؤشر أساسي على الاحترام.
لا بد أن تكون هنالك طفرات تحفيزية من جانبنا ومن جانب المدرسة بالنسبة للطفل، هذا مهم جدا، السلوك الإيجابي لا يعزز إلا من خلال التحفيز، مثلا: والدة الدكتور أحمد زويل - عليها رحمة الله - كتبت على باب غرفته وهو في سن الرابعة: (الدكتور أحمد زويل)، هذا مثل قيمة وطفرة عظيمة في حياة هذا العالم، مما رسخ لديه الدافعية والشغف للعلم والتعلم.
دائما نحتاج النموذج المفيد في حياتنا وفي حياة أطفالنا، فأن نشير لأطفالنا (أريدك أن تكون مثل فلان ومثل فلان وفلان) هذا أيضا مهم جدا.
لا بد أن تكون هنالك أنشطة حياتية أخرى غير الدراسة، ولا بد أن نعلم أطفالنا كيفية إدارة الوقت، ولا بد أن نعلم أطفالنا أيضا كيف يستفيدون مما نسميه بضغط الرفاق، أو ضغط الزمالة، الطفل يتعلم ويأخذ كثيرا ممن هم في سنه أو من يرافقهم.
كلمة (رفق) كلمة جميلة، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وأنا دائما أقول أننا حين نتخير لأبنائنا التعليم يجب أن نراعي هذه الكلمة الجميلة، الراء للرغبة، والفاء للفرصة، والقاف للقدرة، أيا كانت النظرية فيجب أن نهتم بهذه المحاور الثلاثة.
الآن والعالم يمر بجائحة كرونا، وهي تجربة فريدة حدثت في زماننا هذا، بالرغم من سلبياتها وأضرارها وكمية الخوف والذعر الذي دخل على العالم بسببها والتأثير الاقتصادي والاجتماعي، إلا أننا اكتشفنا أشياء كثيرة جدا إيجابية، فمثلا في مجال التعليم؛ الآن أصبح التعليم أولاين، أو التعليم على الخط، أو التعليم عن طريق الإنترنت، يعتبر إنجازا جديدا أثبت جدواه بصورة ممتازة جدا في جميع المواد. طبعا هنالك بعض السلبيات، لكن أرى أن الإيجابيات أكثر بكثير.
فهذا الإدخال الجديد وهذه الإبداعات الجديدة طورت التعليم، وحتى من الناحية الاقتصادية، وحتى من الناحية الاجتماعية ربما تكون طريقة أفضل كثيرا، قد تمثل عبئا على بعض الأسر، لكن في نهاية الأمر إيجابياتها كثيرة جدا، وهذه أيضا طريقة تعليمية يجب أن نستفيد منها، حين نعلم أبنائنا ونسعى لتربيتهم على أفضل الطرق الأكاديمية والإسلامية.
ختاما: أنا شاكر جدا لرسالتك هذه، وسؤالك الهام هذا، وأتمنى أن أكون قد أعطيت بعض اللمحات التي قد تكون مفيدة، وطبعا تتفق معي تماما أيا كانت النظرية أو الطريقة التي تطبق في التعليم، المهم هو طريقة التطبيق، والمهم أن تكون هنالك الآليات والوسائل الصحيحة متوفرة لتطبيق النظرية، وطبعا هذا دور مناط بالمدرسة أو المؤسسة التعليمية، وقطعا دور البيت وبيئة الطفل أيضا هي ركائز أساسية جدا لتحسين الإدراك المعرفي لدى الطفل، ومعظم هذه النظريات الحديثة تقوم على اعتمادية الطفل على ذاته؛ مما ينمي من مقدراته المعرفية، ويزيد من شغفه وحبه للتعليم.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرا، وبالله التوفيق والسداد.