السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
جزاكم الله خيرا على جهودكم.
أنا طالبة في السنة الثانية من كلية الطب، خاتمة لكتاب الله، كان طموحي قبل الالتحاق بالكلية أن أسعد والدي، وأن ينفع الله بي الأمة الإسلامية، فعلى الرغم من مهاراتي في مادة الرياضيات، والتي كان يلاحظها معلمي، بل كان البعض ينبهر بها، إلا أنني فضلت اختيار قسم العلم علوم -والحمد لله-، فقد حصلت على مجموع كفل لي الالتحاق بالطب -كما ذكرت سابقا-.
المشكلة بدأت معي السنة الماضية، في البداية كنت أجتهد وأذاكر، إلا أنني بعد فترة بدأ عزمي يقل جدا، ولم أعد تلك الطالبة المتفوقة، حتى أنني فقدت كل أهدافي وشغفي في الحياة، حصلت -بفضل الله- على تقدير امتياز، ولكن لم أصبح من أوائل دفعتي، والمشكلة ليست فقط في ضعف أهدافي، فقد تخلصت -بفضل الله- من هذه المشكلة هذا العام، وبدأت أتذكر هدفي في أن ينفع بي الله الإسلام والمسلمين، وأن أحاول أن أصبح من علماء المسلمين.
ولكن المشكلة أنني أشعر أنني أقل أصدقائي ذكاء، فأنا لا أستطيع أن أحفظ ما يقوله الدكتور أثناء المحاضرة كما يفعل الكثير من أصدقائي، كما أنني دائما ما أخوض الامتحان بدون إنهاء المادة المقررة، على عكس أصدقائي، ولا أنهي محاضراتي سريعا مثلهم، شعوري بنقص ذكائي يسيطر علي، كما أنني أشعر أن مهما فعلت فلن أصل إليهم، فهم سبقوني بأشواط في السنة الماضية من معلومات في المواد، كما أن شعوري بعدم التوفيق يلاحقني دائما، أقارن نفسي بأوائل دفعتي، وأنا سعيدة جدا أن أغلبهم مسلمين، وهذا ما يهمني، ولكن أتمنى أن أكون بينهم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ رحاب حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكركم لتواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا.
أعجبتنا همتك العالية -يا ابنتي- في ضمك كتاب الله تعالى لتخصصك الأكاديمي، وهذا هو عنوان السعادة الحقيقية -بإذن الله تعالى-.
﴿إن هـٰذا ٱلۡقرۡءان يهۡدي للتي هي أقۡوم ويبشر ٱلۡمؤۡمنين ٱلذين يعۡملون ٱلصـٰلحـٰت أن لهمۡ أجۡرا كبيرا﴾ [الإسراء 9].
مشكلتك الرئيسية كما يظهر من ثنايا سردك لمشكلتك هي: مقارنة نفسك بالآخرين، فإذا استطعت التخلص من هذه المشكلة، أو التخفيف منها، فسوف يشكل هذا عاملا حاسما في تخطي معاناتك ومشاكلك بشكل عام، والمشاكل الدراسية بشكل خاص، أنت تحتاجين إلى تغيير الصورة الذهنية عن نفسك، وأن تلتفتي إلى نفسك قليلا، وألا تحقري نفسك، فالمؤمن كريم وعزيز عند الله تعالى.
وسوف أضع لك بعض النقاط، لعلها تشكل إضاءات لك في حياتك ومستقبلك الأكاديمي والمهني:
1- لا بد أن تقتنعي بأن كل إنسان نسيج وحده -كما يقال-، ورغم إن سكان كوكب الأرض يقترب من ثمانية مليار إنسان؛ إلا أنه لا أحد منهم يشبه الآخر! فهناك فروق فردية بين البشر، سواء من النواحي البيولوجية (خصائص الكائن الحي)، أو المورفولوجية (شكل الكائنات الحية)، أو النواحي النفسية وسمات الشخصية، إلى آخره.
ماذا يعني هذا؟!
هذا يعني أنه لا ينبغي أن نجهد أنفسنا لأن نكون نسخا مكررة عن الآخرين، حتى لو كان هؤلاء الآخرون مبدعين في مجال ما، فهذا الآخر وصل إلى ذلك الإبداع بالاستعداد الفطري والسلوكي الذي وهبه الله له، وكذلك نحن لدينا ملكات واستعدادات فطرية معينة، بالإضافة لجانب السلوك الذي نبذله فنصل إلى نتيجة معينة، قد تكون أكثر أو أقل من الآخرين، وليس شرطا أن نحقق ما حقق الآخر تماما، لأن أدواته واستعداداته مختلفة، كذلك نحن مختلفون بأدواتنا واستعداداتنا الفطرية والنفسية والسلوكية، والأمر يشبه -تماما- توزيع السوائل في الأواني المستطرقة، وهذه الأواني مختلفة الأحجام والسعات وتأخذ حصتها من الماء أو السائل بقدر سعتها فقط، ولا يمكن اعتبار الإناء الصغير بأنه أقل نفعا من الإناء الكبير الذي أخذ كمية كبيرة من السوائل، فكل إناء له وظيفته المحددة بغض النظر عن حجمه وشكله ولونه.
فالبشر عبارة عن أواني مختلفة لهم استعدادات مختلفة، وبالتالي يتلقون معارف ومهارات على قدر استعداداتهم، ولعل هذا المعنى أشار إليه الحديث النبوي الذي يشرح الفروق الفردية بين البشر واستعداداتهم لتلقي المعارف والعلوم -خاصة العلوم الإلهية وعلوم الوحي السماوي-.
فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا. وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به متفق عليه.
فالحديث يقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
- يتعلم العلم ويفهمه ويعلمه غيره.
- يتعلم العلم بدون فهم (مجرد حفظ) ويبلغه غيره.
- لا يتعلم ولا يفهم ولا يبلغ غيره.
لذلك لا يمكن أن يكون الناس كلهم نسخة واحدة مكررة بسبب اختلافاتهم واستعداداتهم الفطرية لتلقي المعارف والعلوم.
2- العمل بمبدأ (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، حيث يبذل الشخص جهده في التعلم والإفادة مما حوله قدر المستطاع، فقد تعترضه بعض الصعوبات فتؤخره عن زملائه، وهذا لا يعني أنه شخص فاشل! بل يعني أنه شخص ناجح بحسب مواصفات الظروف التي مر بها، بحيث لو مر غيره بتلك الظروف فسوف يفعل مثلما فعل، أو ربما يفشل أحيانا، بينما صاحبنا هذا استطاع تخطي العوائق، ولكنه تأخر فقط! والتأخر لا يوصف بالفشل.
3- لا بد من التدرب على مهارة التركيز على الذات، أو ما يسمى باليقظة الذهنية mindfulness وهو أن تركزي على عملك الذي تمارسينه حاليا، وتتأملين في تفاصيله بدقة، ولا نعني بالعمل هنا مهامك الرسمية أو مهامك الدراسية فقط، وإنما سائر أنشطتك اليومية، على سبيل المثال:
عند احتساء كوب من القهوة، يمكنك استشعار لذة القهوة على لسانك، واستشعار الرائحة الزكية، واستشعار ملمس الكوب، إلى آخر التفاصيل المتعلقة بالحدث نفسه.
ماذا يفيدك هذا؟
يفيدك فيما أسماه علماء السلوك الإسلامي (بالجمعية)، ويعنون بها جمع الذهن على شيء واحد، وبالتالي عدم التشتت والتفكير بالآخرين.
وأعظم أداة إسلامية تحقق مفهوم اليقظة الذهنية بشكل عام هي شعيرة الصلاة، حيث يتعلم فيها المسلم التركيز فعلا، وهو ما يسمى (بالخشوع)! من هنا ندرك أهمية وفائدة الخشوع في علاج مشاكلنا الحياتية والنفسية.
أما شعورك بعدم التوفيق، فهو مجرد صورة سلبية تقبع في رأسك! فلا تستسلمي لها، ومفهوم (التوفيق) لا يعني بالضرورة تحقيق هذه المهمة أو تلك! فقد يكون عدم التحقيق لطفا من الله عز وجل، تماما كشخص حجز تذكرة طيران لتحقيق عمل مهم، ثم فاتته الرحلة فتحسر على نفسه وشعر بعدم التوفيق؛ لكنه ما لبث أن سمع أن تلك الطائرة سقطت أو حصل عليها اختطاف وحولت وجهتها؛ هنا شعر بالامتنان والرضى وأنه أكثر الناس حظا وتوفيقا!
إذن فالتفريق صورة ذهنية يمكن أن نحركها بالاتجاه الإيجابي والسلبي، ويبقى فوق كل ذلك توفيق الله عز وجل الملازم للعبد، وأعظم التوفيق له هو حفظه وصيانته من شر نفسه وشر خلقه من شياطين الإنس والجن، لذلك كان النبي ﷺ يستعيذ بهذه الاستعاذة:
"اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم"
نسأل الله أن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يهديك سواء السبيل.