السؤال
السلام عليكم
أبلغ من العمر 45 عاما وعازبة.
منذ صغري كل سنة أجري عملية جراحية، وكانت تفشل وتعاد السنة التي تليها، إلى أن كبرت حتى أجريت ما يقارب 20 عملية، مما جعلني أحب الله، ولا أقتصر على عبادته فقط؛ لأنه ابتلاني لأنه يحبني بقدر ابتلائه لي.
مع سن المراهقة تعرضت لصدمة من أهلي حين اكتشفوا أنني على علاقة بشخص، والله يشهد أنها علاقة إنترنت فقط غير واقعية، مما اضطرهم إلى مقاطعتي، وعزلي بغرفة وعدم إطعامي وما إلى ذلك.
أصبحت بمرض نفسي، نوبات هلع واكتئاب وعصبية، ومع هذا تمسكت بالله، وتعرضت أيضا للسحر، وكل سنة كنت أتعرض لنوبة هلع بشكل مختلف، مرة جنون، ومرة موت، وأكثر سبب دفعني لهذا هو الكتمان وعدم الرد، حتى للدفاع عن نفسي.
ما زلت أتعالج نفسيا حتى كبرت، فارتد ذلك علي سلبا بالعصبية، والرد على الإساءة أو الظلم.
سؤالي: هل معناه أنني عاقة، ولو كنت عاقة كيف يمكنني التحكم بنفسي لأتجنب الإهانات والمعاملة السيئة المستمرة؟
للعلم والدي لا يصرف علي، أنا أشتغل وأصرف عن نفسي، والراتب لا يكفي، مما سبب لي ضغوطات مع الغربة خارج البلد.
جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ نهال حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا بك -أختي الكريمة- أدعو الله الكريم أن يشفيك تمام الشفاء، وأن يجزيك عن صبرك واحتسابك للأجر كل الخير.
معاناتك الجسدية التي أخبرتنا عنها وصبرك عليها وإيمانك بالله بأنه -جل وعلا- قد انتقاك ليبتليك ثم ليعطيك حسن الجزاء، تفكيرك هذا يعكس صفاء معدنك وتميز تفكيرك، وأنك فتاة متميزة حقا، أسأل الله أن يسعد قلبك في الدارين.
إن للأمراض العضوية طويلة المدى تأثيرها على نفسية المريض، وهذا ينطبق على حالتك فأنت كما أخبرتنا تقومين سنويا بإجراء عملية، وهذا يجعل خضوعك للعلاج النفسي فكرة صائبة جدا، ولكن لم أفهم منك ما هو نوع العلاج الذي تلقيته وما زلت تتلقينه، هل هو دوائي، أم نفسي بدون دواء؟ فهذه المعلومة كانت ستفيدني في تقدير أدق لوضعك.
فيما يخص حالتك، وجوابا لسؤالك عن كيفية تحكمك بنفسك بشكل عام، وبشكل خاص تجاه الإهانات والمعاملة السيئة التي قد تتعرضين لها، فهنا أريد التنبيه، أننا جميعا في حال تعرضنا لأية إساءة من أي شخص كان، فلا نستطيع أن نغير من حولنا، ولكن نستطيع التغيير من أنفسنا بطريقة ودرجة تأثرنا بمن حولنا، وهذا تماما ما أريدك التركيز عليه.
وهذا ما يقوم عليه العلاج المعرفي السلوكي: وهو علاج نفسي لا يقوم على الدواء، هذا العلاج يؤمن أن أفكارنا الداخلية هي من تحرك مشاعرنا وسلوكياتنا، وبالتالي يهدف إلى معرفة الإنسان وإدراكه لأفكاره السلبية المسيطرة على ذهنه، وخاصة في المواقف الضاغطة عليه، ومن ثم يعمل على علاج تلك الأفكار السلبية، وإبطال تأثيرها من خلال مناقشتها في الجلسات مع المعالج، وإحلال محلها أفكار أخرى تكون أكثر صحة وإيجابية، وهي بدورها ستبدأ بالتأثير على صاحبها بمشاعره وأفكاره، مما سينعكس ذلك إيجابيا على نمط حياته وخبراته الجديدة.
أي: مراقبتك للأفكار السلبية التي تترافق مع المواقف الاجتماعية الضاغطة عليك والمزعجة لك، ومن ثم العمل على تعديلها، هي أهم خطوة في العلاج.
- هذا النوع من العلاج قد أصبح متوفرا كخدمات أونلاين، بإمكانك البحث عبر الإنترنت عن معالج ممارس ومتمكن، للبدء معه بأقرب فرصة، وهذا النوع من العلاج قد أثبت فاعليته الكبيرة في أغلب الحالات التي تعاني من القلق والمخاوف والاكتئاب ونوبات الهلع، لذا أنصحك به بشدة.
أما فيما يخص سؤالك المتعلق بفكرة العقوق والبر للوالدين، فدورك الآن يكمن في مسؤوليتك تجاه نفسك، بأن تحميها من الأثر النفسي السلبي لتعامل والديك معك، وأن ترفقي ذلك مع برك لهم.
لذا أرى أن أهم خطوة عليك القيام بها لتجاوز معاناتك هي تقوية مناعتك النفسية، فأنت بلا شك لا تستطيعين تغيير والديك، ولكن بإمكانك أن تغيري من نفسك، وتزيدي من قوة شخصيتك وصلابتك النفسية ومناعتك ضد المشكلات الخارجية، وأقترح عليك لتحقيق ذلك:
- تذكري أن هذه الفترة طالت أو قصرت ستمر، واجعلي مبتغاك في كل خطواتك هو رضا الله سبحانه عنك، دون انتظارك لأية مقابل من والديك تجاه برك لهم.
أي ركزي بداخلك أن كل معاناتك ستصبح ماض بالنسبة لك، واجعلي هدفك أن تبني نفسك لتكوني امرأة قوية وواثقة بنفسها ومتوازنة من داخلك ومتصالحة مع نفسك وما مر معك.
- هناك نقطة مهمة أريد التوقف عندها، وهي أن الله تعالى قد جعل هناك واجب على كل من الوالدين والأبناء.
فيما يخص واجب الأهل فهو أن يحسنوا في تربية أبنائهم، وأن يجتهدوا في المساواة و العدل فيما بينهم في الرعاية والعطية والهدايا والتعامل وإظهار العاطفة ذكورا وإناثا، وأي تقصير في ذلك فسيحاسبون عليه بلا شك.
أما فيما يتعلق بواجب الأبناء فهو بر الوالدين والإحسان إليهما.
والنقطة الهامة هنا هي: أن العلاقة بينهما ليست بالمثل على الإطلاق، أي على الأبناء بر والديهم حتى لو بدر منهم إساءة لهم، فالبر ليس مكافأة للوالدين على حسن تعاملهما، بل هو واجب أوجبه الله على المسلم يلزم القيام به.
والبر هنا هو الإحسان دون انتظار النتيجة، أي مطلوب منك ومنا جميعا أن نعطي و نبر والدينا، وغير مطالبين أن نجني.
وهنا دعينا نتوقف عند الآية الكريمة: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون}، لقمان 15، فالله يأمر المسلم أن يحسن إلى والديه الكافرين والذين يأمرانه بالكفر بالله، ولم يجعل أمر الوالدين للولد بالكفر مسوغا للإساءة إليهما، بل أمره بالمصاحبة بالمعروف، بالرغم من كل ذلك.
والمعروف هو العطاء دون مقابل، أي دون انتظار الرد، وهذا ما أريدك التركيز عليه، أي اجعلي دافعك في بر والدتك، وفي تحملك لما قد يؤذيك منها هو رضا الله عنك وجزاؤه لك.
وأيضا دعينا نستحضر قصة سيدنا إبراهيم -عليه السلام-، وكيف رماه أبوه في المنجنيق وسكب عليه الزيت وأراد حرقه وقتله، وعندما خرج من النار قال، سأستغفر لك ربي.
أي ما أريدك التركيز عليه في تفكيرك، أن أعظم أنواع البر هو أن يحسن الابن، والوالدين أو أحدهما يسيئان، أو أن يعطي الابن، والأم أو الأب ينكران.
وضعي في ذهنك دائما بأن هذا ابتلاء واختبار لصبرك وإيمانك وإحسانك لوالديك، فإن بررت والديك وأحسنت إليهم مع إساءتهم، فهذا هو أعظم درجات البر، وله ثوابه الكبير.
- اجعلي لنفسك خيارات وبدائل أخرى تعزز من شخصيتك وتقوي من ثقتك بنفسك وتبني تقديرا عاليا لذاتك، بعيدآ عن أسرتك، وهذا بدوره سيقلل تلقائيا من تأثير والديك السلبي على شخصيتك ونظرتك لنفسك.
من هذه الخيارات:
- صحبة صالحة على خلق ودين، وأن توطدي علاقتك بهم قدر الإمكان، فالأصدقاء الإيجابيين يلعبون دورا كبيرا في تقوية شخصيتنا وثقتنا بأنفسنا.
- التكثيف من انخراطك بالحياة الاجتماعية خارج المنزل مع أناس جدد لا يعرفونك سابقا، فهذا أيضا سيجعلك أكثر حرية في إخراج ايجابياتك وتعزيز شخصيتك.
- تابعي فيديوهات تنمية الذات سواء لمختصين نفسيين أو لمدربي مهارات الحياة، وهي موجودة بوفرة في اليوتيوب أو باقي تطبيقات التواصل.
- الخضوع لدورات تنمية الذات عبر الانترنت وقراءة الكتب حول تنمية الذات والشخصية وأنماط التفكير.
- كل شخص منا لديه مزيج من الايجابيات والسلبيات بداخله، سيساعدك كثيرا أن تفكري في ايجابيات والديك معك، فهذا سيعينك أكثر على تحمل أية إساءة منهم لك.
- بادري في التودد إلى والديك بهدايا أو أعمال بسيطة أو كلمات طيبة تدخل الفرح والسعادة إلى قلبها، فهذه المبادرات على الأغلب ستلين قلبهم عليك وتجعلهم أكثر رقة معك.
أخيرا: تذكري أن رحلة تغيير أي إنسان لنفسه تحتاج إلى الصبر والإرادة والدعم من الدائرة المقربة له، في حال عدم توفر شخص مقرب لك يدعمك ويساندك خلال رحلتك، نحن جاهزون لتقديم ذلك الدعم في أي وقت تشائين، لذا لا تترددي في مراسلتنا مجددا عندما ترغبين.
أتمنى أن تكوني قد استفدت من ردي لك، وأنا حقيقة قد لمست في كلماتك كم أنك فتاة مميزة بوعيك وإيمانك، وطريقة تفكيرك وقوتك الداخلية، لذا أنا واثقة أنك ستتمكنين من تحقيق هذا التوازن بين رضا نفسك، ورضا والديك عنك، فأنت فعلا تستحقين أن تكوني سعيدة في حياتك.
برعاية الله.