السؤال
السلام عليكم.
أنا فتاة أبلغ من العمر 24 عاما، مشكلتي أصلي وأقرأ ما تيسر من القرآن -الحمد لله- ولكنني حريصة بشدة على الدنيا، وأدعو الله فقط وألجأ إليه وقت حاجتي.
لدي الكثير من الأحلام والطموحات، أشعر أنني أحرص على العبادات فقط من أجل أن تتحقق أمنياتي، وليس من أجل إرضاء الله -عز وجل-.
بالطبع أحب الله -سبحانه وتعالى- وأخشى من عقابه، ولكن أشعر أن رغبتي في الدنيا أقوى بشدة من رغبتي في الآخرة، وأخاف الموت بشدة، أتمنى دائما أن أعيش طويلا لأحقق أحلامي هل هذا حرام؟
وكيف أجعل حب الله وحب لقاؤه، وحب الآخرة قويا في قلبي؟
أتساءل كثيرا بما أن الهدى بيد الله والضلال بيد الله، إذن فما ذنب من اتخذ سبيل الضلال، وأن الله -سبحانه وتعالى- لم يشأ له الهداية؟ نرى الكثير من الناس عاشوا سنوات كثيرة من حياتهم في طاعة والتزام، وفجأة ينحرفون عن الطريق المستقيم، ويموتون على ذلك، والعكس هناك أناس عاشوا حياتهم في فسق وفجور ثم يهديهم الله في النهاية إلى الصراط المستقيم.
سؤال يحيرني كثيرا، أرجو الرد.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Sunrise حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -ابنتنا الفاضلة- في الموقع، ونشكر لك الاهتمام، ونحي حرصك على الصلاة والقرآن، ونسأل الله -تبارك وتعالى- لنا ولك التوفيق والسداد.
لا شك أن حرص الإنسان على أداء الطاعات من الأمور العظيمة، والتدرج بعد ذلك يكون الهدف هو إرضاء رب الأرض والسماوات هو الهدف الأسمى، وإذا سعى الإنسان في إرضاء ربه وعمل بما عليه فينتظر من الله الخير؛ لأن الله يقول: {وألوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا}، قال الشاعر:
ولو صدقوا وما في الأرض نهر *** لأجرينا السماء لهم عيونا
ولأخضعنـــــا لملكهم الثريـــا *** وصيرنا النجوم لهم حصونا
فجميل أن يجعل الإنسان غايته إرضاء الله، وأداء المهمة التي خلق لأجلها، ثم بعد ذلك ستكون الدنيا في طاعته، ويكون الرضا هو التجارة والبضاعة التي يفوز بها، فإن ما عند الله أغلى، وأعظم الأرزاق هو طاعة الكبير المتعال، ولذلك قال: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا}، ثم قال: {ورزق ربك خير وأبقى}، رزق ربك من الصلاة والصلاح والفلاح والطمأنينة والسكينة خير وأبقى.
فهذا جميل، ولكن المرحلة الأخيرة التي يحب فيها الإنسان لقاء الله سيصل إليها بعد الاستمرار في الطاعات، وبعد علو النفس، وبعد تعميق معاني الإيماني والرغبة فيما عند الله -تبارك وتعالى-، ولا تعارض بين المرحلتين، ولكن من المهم جدا أداء الإنسان التكاليف الشرعية، ثم بعد ذلك يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبه ربنا العظيم، ثم يتدرج بعد ذلك في سلم السعادة والرضوان.
أما بالنسبة للجزء الثاني من السؤال وأن الهدى بيد الله وأن الضلال بيد الله: نريد أن نقول أنه لا شك أن ربنا العظيم أعطى هذا الإنسان قدرة على التمييز، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وجاء بالهداة بين الناس أن من سلك الطريق مصيره كذا، ومن صار في هذا الطريق مصيره كذا.
وعلم الله -تبارك وتعالى- بمآلات الأمور ومقادرها لا يؤثر في هذا، لا يؤثر باختيارات الإنسان، وهذا واضح في قوله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى}، قال العظيم: {فسنيسره لليسرى}، ثم قال: {وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى} قال العظيم: {فسنيسره للعسرى}، بل قال العظيم: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، قال العظيم: {والذين اهتدوا زادهم هدى}.
فمن سلك سبيل الهداية سهل الله له الهداية، ومن أراد بنفسه الغواية وأبى أن يسير على الطريق الذي يرضي الله تركه الله -تبارك وتعالى- وما أراد.
وعلى كل حال أيضا: لا بد أن نذكر بحديث النبي -عليه الصلاة والسلام- الذي فيه الإشارة إلى هذا المعنى، أن بعض الناس يكونوا على الطريق المستقيم ثم ينحرفوا ويهلكوا، وغيرهم على طريق الغواية ثم يتوبوا ويموتوا على توبة وحسن خاتمة.
هذا طبعا واضح في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع، فيسبق عليه كتابه، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة)، وجاءت إضافة غاية الأهمية، وهي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)، فمن الناس من ظاهره الهداية والخير لكن الباطن والعياذ بالله غير ذلك، ومن الناس من في ظاهره تقصير لكنه يحمل قلبا، يحب الله ورسوله، لكنه عنده بعض الطاعات الخفية، لكن عنده بعض الأمور التي تقربه إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم يكمل ذلك بأن يستخدم نهاية حياته أو يوفقه الله في نهاية حياته إلى أعمال صالحة يختم له بها.
على كل حال: هذه الأمور ينبغي أن تجعلنا أن نعمل، لأن الصحابي سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه أمر قضي عليهم من قدر وسبق عليهم من قدر قد سبق أو شيء جئتهم به تتخذ عليهم الحجة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بل ما قضي عليهم وقدر عليهم من قدر قد سبق). قال: فقال يا رسول الله، فلم يعملون؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) وتلا هذه الآية: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار قال: فقالوا: يا رسول الله، فلم نعمل؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يهدينا وييسر الهدى علينا، وأن يلهمنا السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه.