السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكركم جزيل الشكر على استشارتكم في المشكلة التي طرحت سابقا رقم 247075، جزاكم الله كل الخير.
لكن وبكل صراحة مازلت لم أجد جوابا شافيا في إتمام دراسة هذا العلم (علم الحياة، Science de la vie)، علما أن هذا الفصل هو الأخير في مشواري الجامعي للحصول على شهادة الإجازة.
وفي الحقيقة قد توقفت عن دراستي ولم أحضر للامتحانات، وحصلت على نتائج سلبية "طبيعي" في الفصل الأول، أبواي يظنان أني لا زلت أتابع الدراسة، وكلما سألني أحد عن الدراسة أتجاهل السؤال، وحتى أبواي.
وقد حل الفصل الثاني ولم أحسم بعد قراري في إتمام الدراسة أم لا، أتمنى دراسة العلوم الشرعية، ولكن في الوقت الحالي هذا لا يمكن، يجب أن أنتظر حتى السنة القادمة، وأنتقل إلى جامعة أخرى بعيدة عن محل سكني.
وحتى الآن أبي يتحمل كل المصاريف الدراسية والمسكن والملبس والمطعم، لا أعرف ماذا أفعل؟ أأتوقف عن الدراسة!؟ فكيف أقنع والدي وهم ينتظرون أن أحصل على الشهادة والعمل؟ وكم أنفقوا وصبروا علي حتى وصلت إلى آخر المطاف!
السؤال الكبير الذي أطرحه: لماذا أدرس علم الحياة؟ بالإضافة إلى كون الدراسة تأخذ كل وقتي والصلوات تتوافق مع وقت المحاضرات، وكذلك الأعمال التطبيقية، خصوصا العصر والمغرب، وأضطر إلى الاختلاط بالطالبات من أجل أعمال جماعية، والكلية مليئة بمظاهر التبرج والميوعة والفتن، وأغلب الطلبة لا يصلون، وكل الوقت يذهب في المراجعة والتحضير والاستعداد للامتحانات.
أكثر من هذا هو: ما علاقة علم الحياة "العلوم البيولوجية" والإسلام؟ فإذا أتممت هذا العلم هل أؤجر على ذلك؟ هل هناك منفعة للإسلام في هذا العلم؟ فأنا أشعر أني أخطأت التوجه لمجموعة أسباب منها أني كنت غافلا عن الله سبحانه وتعالى، ولما أفاقني الله سبحانه وتعالى وجدت نفسي متورطا.
أستسمح على الإطالة، وأرجو من أحبائي أن تتسع قلوبهم لمشكلتي فإني في حيرة من أمري، فأنا أعلم أن كل الحلول بيد الله سبحانه وتعالى، وهو المدبر للكون كله، ولكن من جانب الأخذ بالأسباب استشرتكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ المزازي حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد – والله – امتلأت عجبا من شخص يدرس سنوات، ويتخلى عن ثمرة جهده التي ينتظرها أهله وبلده وأمته! ولو لم يكن في إكمال الدراسة إلا إرضاء والديك لكان ذلك كافيا ودافعا لإكمال المشوار، وماذا عن المصاريف التي صرفها الوالد ولازال؟ ولا أظنك تجد شخصا على وجه الأرض يوافقك على هذا الذي تنوي فعله، فإذا وصلتك هذه الإجابة فاطرد عن النفس وساوسها، وأقبل على دراستك وتوكل على ربك، واعلم أنك لست مسئولا أمام الله عن فتاة عارية، ولا عن شاب لا يصلي، ولا تكون هذه مبررات لترك الدراسة؛ لكنها فرصة عظيمة لك من أجل أن تنصح وتدعو إلى الله، فإن عجزت عن التغيير فانصرف لدراستك، واذكر ربك وغض بصرك، وقد سبقك في هذا الدرب طائفة من الأخيار الذين حفظوا الله فحفظهم، بل إن بعض إخواننا درس في بلاد الغرب المليئة بالعري والشهوات، ورجعوا إلى بلادهم وقد ازدادوا إيمانا وتصديقا بجمال وكمال هذا الدين، وترك هناك ذكرى عطرة وينابيع للخير والدعوة مثمرة، ودخل بعض الكافرين في دين الله على أيديهم.
نحن في زمان لا يسهل على الإنسان أن يجد عملابدون هذه الشهادات، فهل ستظل عالة على أسرتك ووالديك؟
وأرجو أن تعرف أن طلب العلم الشرعي يتطلب أن يكون لك دخل مناسب حتى لا تحتاج لغيرك، وقد كانت للعلوم الشرعية بركتها العظيمة لما كان طلابها لهم مهن ووظائف حرة يكسبون من ورائها أرزاقهم، فلم تكن لأحد عليه بعد الله منة، فسهل عليهم قول الحق والصبر عليه والجهاد في سبيله، ولم يكن الصرف من طلبهم للعلم الوظائف أو الأموال، وهل أضاع العلوم الشرعية إلا فساد نية بعض طلابها وانتظارهم للعاعة الدنيا من ورائها، فطلبوا من العلم القليل فلما نالوا الوظائف توقفوا عن الطلب، ولا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل.
من هنا فنحن ننصحك بإكمال المشوار وطلب الوظيفة والعمل، والإقبال على طلب العلم الشرعي في الأوقات التي لا يكون عندك فيها عمل، وابدأ بما تصحح به عقيدتك وعبادتك ثم تبحر في علوم الشرع، واقصد بها وجه الله والنفع.
أرجو أن تعلم أن كل علم تحتاجه الأمة لابد من تفرغ بعض الشباب لطلبه، وإلا كان الإثم على الجميع، ولا تستطيع الأمة الإسلامية أن تستغني عن هذا التخصص ويقبح بنا الاعتماد على الكافرين في هذا العلم أو في غيره، كما أن هذه العلوم تربط الإنسان بعظمة العظيم، ويمكن أن يزداد بها إيمانا إذا تفكر في عظمة الخالق المبدع، فإن الأطباء هم خير من يفهم قول الله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) [الذاريات:21].
علماء الجيولوجيا هم خير من يفهم قول الله تعالى: (وفي الأرض قطع متجاورات) [الرعد:4]. وهكذا فإن العلم يدعو للإيمان إذا ربطناه بالقدير الرحمن، معلم داود ومفهم سليمان، وبهذه العلوم يزداد أهل الإيمان إيمانا كما قال الطبيب الرازي رحمه الله: "من تعلم التشريح (الجراحة) ازداد إيمانه"؛ لأنه يشاهد قدرة القدير ويلمس عظمة وإبداع العظيم". (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) [السجدة:7].
أرجو أن تعلم أن عدد من العلماء المشهورين في ساحة العمل الإسلامي من أصحاب التخصصات العلمية كالصيدلة والهندسة والطب وغيرها، وقد نفع الله بهم وظهر أثر تلك العلوم في ترتيب أفكارهم وعمق تأملاتهم، وذلك لأن هذه العلوم توسع المدارك وترفع القدرة على الفهم، وقد جربنا هذا في كثير من الزملاء الذين أقبلوا على الدراسات الشرعية بعد تخصصهم في دراسات أخرى.
من هنا فإننا نقول لك: إن دراستك للعلوم البيولوجية أو غيرها ستكون عونا لك على الفهم والإدراك، فلا تضيع الوقت في طلب الاقتناع، ولا تكن كمن لدغته عقرب فجعل يدور حول نفسه ويقول: لو أني جئت من هنا ودخلت من هنا، والعقرب يكرر له اللدغة بعد الأخرى. ونحن نحذرك من ضياع الوقت ومحاولة إقناع النفس بعدم جدوى هذه الدراسة، فإن عجلة الزمن تمضي وسوف تندم عندما يحصد الزملاء ثمرة جهدهم ومذاكرتهم.
لو فرضنا جدلا أنك أخطأت فهل يعالج الخطأ بمثله، فإن تأخرك عن الدراسة وتركك للاستعدادات أخطاء أيضا، وقد يصعب عليك مستقبلا علاجها، بالإضافة إلى ما سوف تجره من غضب الوالدين والأسرة.
نحن إذ نرحب بك في موقعك بين آبائك وإخوانك، نتمنى أن نراك متفوقا وناجحا في حياتك، وعالما يشار إليه بالبنان، ولا أظن أن هذه المرة اليسيرة تعطل هذه الرغبة التي نقدرها ونحترمها، ونسأل الله أن يحققها لك.
أرجو أن تعذرني على بعض القسوة في الإجابة فأنت بمنزلة الابن، والأب يعذر في بعض قسوته على ولده؛ لأن الدافع من وراء ذلك هو مصلحة الابن، وأرجو أن تنصرف وبسرعة إلى دراستك حتى تعوض ما فات، فإن الأيام تمضي والامتحانات على الأبواب، واحذر أن تندم عندما يحصد زملاؤك ما زرعوا.
ونسأل الله أن يسهل أمرك وأن يغفر ذنبك.
والله الموفق.