السؤال
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
عمري 25 سنة، وقد وصل بي الأمر لحد الاختناق مما أنا عليه، ولدت في أسرة مفككة، قبل مولدي انفصل والداي، ورحل أبي ولم يرني وتوفي ولم أره أبدا إلا مرة واحدة، أكملت حياتي منذ يومي الأول وأنا بدون أب.
أمي لم تهمل واجبها نحوي، إلا انها بعيدة عني عاطفيا، لم أسمع في يوم منها كلمة أحبك أو حتى أذكر أنها حضنتني في يوم ما، كانت تضربني وأنا صغيرة لأي تصرف خاطئ، أقوم به.
وكبرت وبقيت غصة في قلبي، لدي أصدقاء كثر إلا أنهم تركوني بعد أن تزوجوا، ومنهم من سافر بعيدا، وعدت وحيدة، لا أحد يهتم بي، ولا أشعر أن وجودي يعني شيئا لأي أحد.
شعور الوحدة يقتلني، أفعل كل شيء في هذه الحياة وحدي، أشكو همي لله وحده، لا أحد يسمعني سواه.
ولكن لم كتب علي أن أحيا هكذا لوحدي؟ هل لأني لا أستحق أن يكون معي أي أحد؟ لم حرمت من العائلة والإخوة والأصدقاء؟ لدي أناس كثر في حياتي؛ لكن جميعهم بعيدون عني ولا أحد يقترب مني ليسمع شكواي، أو ألمي، أو حزني، يريدونك في الفرح فقط، وكلهم مصالح.
أرهقني وجودي في هذه الحياة.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Batoul حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكركم على تواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا.
(لا أحد يسمعني سواه..)، لقد هزتنا هذه العبارة فعلا! ولعلها هي المدخل لحل مشكلتك، بل لحل مشاكل المخلوقات كلها، يقول الله عز وجل: ﴿أمن يجيب ٱلۡمضۡطر إذا دعاه ويكۡشف ٱلسوۤء ويجۡعلكمۡ خلفاۤء ٱلۡأرۡضۗ أءلـٰهࣱ مع ٱللهۚ قليلࣰا ما تذكرون﴾ [النمل 62].
وتأملي معي كلمة (خلفاء الأرض) وكأنها توحي لنا بالهدف الذي خلقنا الله من أجله وهو (الاستخلاف في هذه الأرض لتحقيق غاية التوحيد والعبادة).
فإذا عرفنا أن (الاستخلاف) هدف كبير في وجودنا في هذه الحياة، فإن ما عداه يظل وسائل مساعدة له؛ مثل وجود الوالدين وأعضاء الأسرة، ورفاهية العيش، والوظيفة.. إلى آخره.
فنحن موجودون لتحقيق الاستخلاف لا للعيش مع أشخاص معينين، وإن كان العيش في كنف أسرة مستقرة هو أحد العوامل المهمة التي تساهم في نجاح هذا الاستخلاف.
وما وقع لك من أقدار حيث لم تري أباك إلا مرة واحدة، فإن هذا ليس إهانة لك من الله تعالى ولا تحقيرا لك، وإلا لما ولد النبي ﷺ يتيما لا يعرف أباه، مع أن النبي ﷺ أكرم الخلق عند الله! فهل قدر الله تعالى ذلك على نبيه إلا ليكرمه ويرفع منزلته؟
نعم، نحن نتفهم شدة أمك عليك في تربيتك، ولعل لها أسبابها، رغم حرصها على تربيتك، ولكنك الآن كبيرة وينبغي أن تنسي ما مضى، وأن تستقبلي حياتك الجديدة ولا تلتفتي للخلف، وعليك بالإحسان إلى والدتك، فهذا أقل ما يمكن أن تقدميه لها، ﴿۞ وقضىٰ ربك ألا تعۡبدوۤا۟ إلاۤ إياه وبٱلۡو الديۡن إحۡسـٰناۚ إما يبۡلغن عندك ٱلۡكبر أحدهماۤ أوۡ كلاهما فلا تقل لهماۤ أفࣲ ولا تنۡهرۡهما وقل لهما قوۡلا كريما﴾ [الإسراء 23].
مشكلة الأصدقاء الذين يستغلون حاجتك هذه ينبغي أن تضعي لها حدا وألا تقعي في فخ الاعتماد العاطفي بيد هؤلاء الأصدقاء والصديقات فيستغلون حاجتك، ثم يرمونك في نهاية المطاف، وعليك باختيار الصديق أو الصديقة التي تقربك من الله تعالى، وأن يكون مبنى الصداقة طاعة الله، والإعانة على تحقيق هدف الاستخلاف والعبادة في هذه الحياة.
سؤالك: (هل أستحق أن يكون معي أحد؟) نعم تستحقين بلا شك، لكن ليس كيفما اتفق، وعليك أن تعتمدي على إشباع نفسك ذاتيا من غير اللجوء إلى صديق أو صديقة، وهذا هو المفتاح الذي بدأنا به الحديث، وهو اللجوء الصادق إلى الله تعالى والاستغناء به عن كل أحد، يقول الله تعالى: ﴿ومن ٱلناس من يتخذ من دون ٱلله أندادا يحبونهمۡ كحب ٱللهۖ وٱلذين ءامنوۤا۟ أشد حبا للهۗ ولوۡ يرى ٱلذين ظلموۤا۟ إذۡ يروۡن ٱلۡعذاب أن ٱلۡقوة لله جميعا وأن ٱلله شديد ٱلۡعذاب﴾ [البقرة 165].
فالمؤمن والمؤمنة يشتد حبهم لربهم دوما، ويكون في هذا الحب استغناء عن أي علاقة أخرى، نعم تختلف العلاقة الإيمانية بالله تعالى عن العلاقة العاطفية مع إنسان، لكن نحن نتحدث عن تأثيرها المرضي، وكيف يمكن مقاومة هذا التأثير، فإن اتقيت الله تعالى وطلبت رضاه، فسوف يسخر لك خلقه، وسوف يسخر لك من يسعدك في هذه الحياة.
نسأل الله أن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يهديك سواء السبيل.