السؤال
السلام عليكم.
مات أبي منذ سنة ونصف، ومات معه كل شيء، انعزلت عن الناس، وعن أصدقائي، وعن السوشال ميديا، أبعدت أصدقائي عني وأنا أعرف حبهم لي، وابتعدت عن العائلة، كرست وقتي لإخوتي والبيت وأمي، تراجعت في دراستي كثيرا سترني الله أنني لم أعد السنة ومواصل ستره ولطفه علي.
كلما يمر الوقت أقول سوف أرجع إلى حياتي ولكن لا يحصل، لم أستفد شيئا من عزلتي، كنت أقول العزلة جيدة، سأخرج للناس وللحياة عندما أقوى، سأخرج عندما أكون ابنة تليق بأبي، ولكني فشلت في كل شيء، دراستي التي كنت مجتهدة فيها لا أطيقها، فقدت كل الشغف ولا أستطيع الخروج.
أهتم بإخوتي كثيرا، ولكنهم أصبحوا يلومونني وينظروا إلي بأنني لا أفعل شيئا في حياتي، أنا لا أريد أن أكون عالة، أريد أن أكون سندا، وأعلم إذا لم أسند نفسي لا أستطيع أن أقدم شيئا لعائلتي.
أخاف من المستقبل بأن لا أستطيع أن أصبح طبيبة ناجحة، فقد تبقى لي سنة ونصف على التخرج من كلية الطب وأنا لا أتحرك، كيف أرجع شغفي وثقتي في الحياة؟
آسفة على الإطالة، وجزاكم الله الخير.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ريم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكركم على تواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا، وتعازينا الحارة -وإن كانت متأخرة- لوفاة والدكم، الذي نرجو من الله تعالى أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه جنته.
وبما أنك طبيبة وعلى أعتاب التخرج، فسنحرص على مخاطبتك باللغة العلمية التي تناسبك، ومع أننا لا نقوم بالتشخيص عن بعد، ولكن ما تمرين به يشبه أعراض حزن الفقدان المرضي (Morbid grief reaction)، وحسب معايير DSM-5 (الدليل التشخيصي والإحصائي الأمريكي للأمراض النفسية) فظهور ثلاثة أعراض على الأقل بشكل مستمر لمدة ستة أشهر فأكثر يدل على وجود هذا الاضطراب، وهذه الأعراض هي:
- الهوية المشوشة.
- شعور بعدم التصديق بشأن الموت.
- تجنب التذكير بأن الفرد قد مرض.
- ألم عاطفي شديد مرتبط مباشرة بالخسارة.
- صعوبة في العودة إلى الحياة الطبيعية.
- حس الخدر.
- الشعور بأن الحياة لا معنى لها.
- الوحدة والانفصال عن الآخرين.
علما بأن هذا النوع من الاضطراب يحتاج إلى إرشاد ومساعدة علاجية لاحتمال أن تتطور الحالة النفسية إلى مستويات أعمق من الاكتئاب والانسحاب من الحياة، (يمكن مراجعة ندوة عن حزن الفقدان المرضي للدكتور مأمون مبيض بهذا الخصوص سيتم نشرها على يوتيوب قريبا).
وفي العادة (في الحزن الطبيعي غير المرضي) يمر الشخص بخمس مراحل:
1- مرحلة الصدمة، فعن أنس رضي الله عنه- قال: مر النبي ﷺ بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي ﷺ، فأتت باب النبي ﷺ، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى. متفق عليه.
2- مرحلة الإنكار، ويمكن التمثيل لهذه المرحلة بموقف عمر بن الخطاب من موت النبي
صلى الله عليه وسلم، حيث كان يقول: من ادعى أن محمدا قد مات ضربت عنقه بسيفي هذا، إنما ذهب ليناجي ربه كما ذهب موسى ليناجي ربه، واستمر على هذا الحال حتى دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه المسجد، وذهب إلى جسد النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى، فكشف عن وجهه وقبله قائلا: طبت حيا وميتا. ثم انصرف إلى المسجد وقال للناس: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿وما محمد إلا رسول قدۡ خلتۡ من قبۡله ٱلرسلۚ أفإی۟ن مات أوۡ قتل ٱنقلبۡتمۡ علىٰۤ أعۡقـٰبكمۡۚ ومن ینقلبۡ علىٰ عقبیۡه فلن یضر ٱلله شیۡـٔاۗ وسیجۡزی ٱلله ٱلشـٰكرین﴾ [آل عمران ١٤٤]. فلما قرأها لم يتمالك عمر قدميه وخر جاثيا على الأرض وهو يقول: كأنني أسمع هذه الآية أول مرة!
3- مرحلة الغضب: وهذه المرحلة قد تكثر فيها الأفكار الوسواسية: لماذا مات أبي، لماذا ذهب عني…إلى آخره.
4- مرحلة الاكتئاب: وهي المرحلة الأطول، بحيث إذا لم يستطع الشخص أن يتجاوزها فقد تؤثر عليه وعلى حياته، فلا يعود يشعر بلذة الحياة ولا يرى أهميتها كالسابق (هذا في الوضع المرضي) أما في الوضع الطبيعي فهي مرحلة مؤقتة.
5- مرحلة التقبل، وهي المرحلة التي يتقبل فيها الشخص واقع التساؤلات الوجودية: لماذا نحن هنا؟ أين سنذهب؟ هل من الضروري أن نموت؟ ﴿كل نفۡس ذاۤىٕقة ٱلۡموۡتۗ وإنما توفوۡن أجوركمۡ یوۡم ٱلۡقیـٰمةۖ فمن زحۡزح عن ٱلنار وأدۡخل ٱلۡجنة فقدۡ فازۗ وما ٱلۡحیوٰة ٱلدنۡیاۤ إلا متـٰع ٱلۡغرور﴾ [آل عمران ١٨٥].
كيف يمكن الخروج من حالة حزن الفقدان المرضي؟
لا شك أن الوقوع في براثن اضطراب الفقدان المرضي يتطلب اللجوء إلى معالج نفسي مختص، حتى يساعد في الإرشاد للخروج من هذا الاضطراب، ومن أفكار الإرشاد في هذه الحالة:
- فصل الذات عن الشخص المتوفى (فلا يربط كل شيء بحياة المتوفى).
- تعلم إعادة التكيف بدون وجود شخص المتوفى في هذا العالم.
- إنشاء علاقات جديدة بالإضافة للعلاقات السابقة -خاصة مع الأشخاص الذين يدعمونك نفسيا- وهناك أساليب علاجية يتم استخدامها لعلاج الصدمات عموما ومنها صدمة الوفاة، ومن هذه الأساليب:
- العلاج المعرفي السلوكي (CBT).
- العلاج بحركة العينين (EMDR).
- العلاج بالتقبل والالتزام (ACT).
وغيرها من الأساليب العلاجية المعتمدة، ولا شك أننا كمسلمين لدينا ترسانة علاجية قوية تعتمد على الإيمان بموعود الله تعالى، ولدينا أعظم علاج يتعلق بالتقبل والالتزام، وهو تقبل القضاء والقدر والذي هو الركن السادس من أركان الإيمان.
أدوات علاجية مساعدة:
1- يمكن استخدام العلاج السردي أو العلاج بالقصة (Narrative therapy)، وذلك بأن تقومي بكتابة رسالة إلى أبيك الميت (يدويا) عبري فيها عن الأفكار التالية:
- تخيلي موته عبارة عن (رحلة طويلة) ولكنها ذهاب بدون عودة، عبري عن اشتياقك له بعد (رحلته الطويلة) التي غاب فيها عنك وعن بقية أفراد الأسرة.
- اذكري له كيف أن الحياة بعده صارت (صعبة) ولكنها مع ذلك (لا زالت قائمة) وتسير بشكل معتاد.
- اسأليه عما لاقاه من صعوبات في رحلته للدار الآخرة، وكيف استطاع أن يتخطاها وأن يفوز برحمة الله تعالى ورضاه -كنوع من الرجاء وحسن الظن بالله تعالى- فقد جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظني عبدي بي فليظن عبدي ما شاء).
- وجهي له سؤالا: كيف وجدت بيتك في الجنة؟ كيف شعرت برضى الله تعالى عنك؟ قريبا سنزورك بعد الانتهاء من المهام الموكلة لنا في الدنيا.
- ضعي ما تشائين من التساؤلات التي ترد في ذهنك، أو تشغل بالك.
2- يمكنك اللجوء إلى استخدام المكان الآمن؛ حيث تتخيلين مكانا تشعرين فيه بالأمان والراحة النفسية، قد يكون غرفة البيت، كما قد يكون المسجد، أو على شاطئ البحر أو أي مكان آخر، ومن ثم تجمعين تركيزك في ذلك المكان، فلو كان المكان على الشاطئ مثلا، فمن المهم استخدام الحواس الخمس في التركيز مثلا: تشعرين بتيار هواء بحري على جلدك، وتشمين رائحة البحر بأنفك، … إلى آخره. استمري على هذا التمرين لبضع دقائق، ومارسيه كلما شعرت بالضغط النفسي.
3- من المهم كذلك ممارسة تمارين الاسترخاء فرغم بساطتها إلا أنها مفيدة، وهذا رقمها 2136015.
4- الصلاة والدعاء من أهم أدوات التفريغ النفسي، وقد أشارت الآية الكريمة إلى ذلك بوضوح، ﴿یـٰۤأیها ٱلذین ءامنوا۟ ٱسۡتعینوا۟ بٱلصبۡر وٱلصلوٰةۚ إن ٱلله مع ٱلصـٰبرین﴾ [البقرة ١٥٣].
ننصحك بإكمال مسيرتك التعليمية، فلم يتبق إلا القليل، ونرجو أن تستقر أمورك النفسية، وأن تعودي لممارسة مهامك وحياتك بشكل طبيعي، ومن الجيد أنك تسعين لأن تسندي نفسك وألا تكوني عالة، وهذا حافز مهم للتغيير، كما أن اهتمامك بإخوتك أمر إيجابي وليس أمرا سلبيا -حتى وإن نالك منهم شيء من اللوم والعتاب- ولكن استمري في تقديم خدماتك ودعمك للآخرين، فهذا جزء من تكوين وعيك الصحي للخروج من دوامة الفقدان المرضي.
نسأل الله أن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يهديك سواء السبيل.