السؤال
السلام عليكم
توفي والدي رحمه الله، منذ عامين تقريبا، ولم يترك أي وصية، فقررت التصدق عنه بقدر ما أستطيع من حقي في الميراث، ولو كان بمبالغ ضخمة، صرت أنفق الكثير في أعمال البر، وكل يوم يمر ينخفض اهتمامي بالدنيا، ويزداد تعلقي بالآخرة.
أنا أسابق الزمن لفعل الخير، ورد المظالم، فلا أدري لعلي لا أعيش إلى الغد، لكن أفراد العائلة المقربين كان لهم رأي آخر، فتم زجري من طرفهم جميعا تقريبا، وبأسلوب مستفز، منفر ومثير لأعصابي، خاصة من والدتي وأخوالي، فلم يلبثوا أن صاروا يحاولون فرض آرائهم، حتى وإن كانت خاطئة من وجهة نظر أخرى، فيرفضون قطعا اشتغالي كعامل توصيل بالدراجة، -في الوقت الحالي- رغم أني أتوكل على الله، وأحتمي به أولا، ثم آخذ بكل الاحتياطات، من لباس واق وغيره، ورغم أني أحصل على مال قد يفوق ثلاثة أو أربعة أضعاف أجر العمل في اختصاصي الدراسي، إلا أن هذا العمل لا يروق لهم، ويفكرون في المكانة والتأمين...الخ.
إنهم لا ينفكون عن التفكير الشديد في مآلات المستقبل، وبأن المال الذي صرف لن يعود فيصرون على ضرورة عدم صرف الأموال المتبقية في أي مصرف، بل علي البدء من الصفر، وعدم استخدام أي مما ما تركه أبي أبدا، حتى ولو كاستثمار في معدات للعمل، أو لبدء تجارة، بل تركها للطوارئ، خوفا من مرض قد يتطلب علاجه مالا كثيرا، أو خوفا من الفقر لارتفاع الأسعار...الخ.
كذلك إن كنت أريد التصدق عن والدي فإن علي فعل ذلك بدنانير قليلة، فهذا يكفي أن يكون صدقة، وبأن حقي في الميراث يجب تركه في يد أمي، وإخبارها بأي شيء أود فعله، حتى وإن كنت أريد القيام بفعل الخير سرا!
إن الأعمال الدنيوية المشروعة التي أريد إبقاءها سرا لأسباب مختلفة، أكبر أسبابها أمي؛ فهي أمية، وفهمها محدود لكثير من الأشياء، فقد ترفض وتغضب لأي شيء، رغم مشروعيته، أو ثبوت فعاليته؛ لا لأنه محظور شرعي، أو ضرره مؤكد، بل لكونه لا يوافق هواها، وأفكارها المسبقة، أو احتمال ضرره البعيد التقدير.
إنها لا تتقبل مني حتى النصح، وفي أمور الدين، علما بأننا ثلاثة ورثة، "أنا وأختي المتزوجة وأمي"، وميراث والدتي وحده قد يكفي عائلة بأكملها لسنة أو أكثر، من عيش وحياة كريمة من أكل وشرب.
أما نصيبي من الميراث المتبقى منه فقط فكثير بالنسبة للمساكين والفقراء، والحمد لله، بل لو صرفت وتصدقت بنصفه فسيتبقى لي أكثر من ما تملكه أمي، فماذا تقولون؟ جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -ولدنا الحبيب- في استشارات إسلام ويب.
نحن سعداء جدا بتواصلك معنا، كما أننا سعداء جدا بما لمسناه من حرصك على الخير ورغبتك فيه، فنسأل الله سبحانه وتعالى مزيدا من التوفيق والهداية والصلاح.
نحن على ثقة تامة -أيها الحبيب- من أن برك بأبيك وإحسانك إليه بعد موته سبب جالب للخيرات، كما أن الصدقة في نفسها سبب لرزق جديد؛ فإن الله سبحانه وتعالى وعد من أنفق بالخلف، فقال تعالى: (وما تنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين).
مع ذلك ندعوك إلى التأمل فيما تقدمه لك أمك من النصائح، وكذا إخوانك؛ فإن خبرتهم في الحياة أطول من خبرتك، وربما تكون تقديراتهم لبعض الأمور أدق من تقديرك، فلا ينبغي أبدا أن تتجاهل نصائحهم، فعليك أن تتأمل فيها حق التأمل، وإدخار الإنسان لشيء من أمواله تحسبا لحاجاته المستقبلية مبدأ مقبول في الشرع، كما أن العقول السليمة تنادي به وتدعو إليه.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخر لزوجاته أو يعطي زوجاته قوت سنة، هذا مع أنه أزهد الناس في الدنيا، عليه الصلاة والسلام، ومن خلال سؤالك واستشارتك اتضح لنا بأن الميراث الذي تتكلم عنه ليس ميراثا كبيرا، إنما تتكلم عن أموال تكفي لنفقات السنة أو السنتين أو نحو ذلك.
لذلك نصيحتنا لك أن تحرص على الاعتدال والتوازن، وتبقي لنفسك من مالك ما يكفيك ويعفك بالحلال عن الحرام، فأنت شاب في مقتبل عمرك، فتحتاج إلى نفقات الزواج، وتحتاج إلى النفقة على أسرتك، ونحو ذلك من النفقات التي تلزمك في حياتك لتستقيم حياة هادئة متوازنة سليمة.
هذا الاعتدال من شأنه أن يسمح لك بالاستمرار والدوام على فعل الخير، فإن الرغبة الشديدة في فعل الخير مع عدم الاتزان، والالتزام بالتوجيهات النبوية قد يؤدي بالإنسان إلى الانقطاع؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام وهو يزجر وينهى امرأة عن قيام الليل وهي تنعس، قال: (مه عليكم من الأعمال ما تطيقون، أو اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا).
إن الله تعالى لا يقطع على الإنسان ثوابه حتى ينقطع هو عن العمل، فينبغي له أن يجتهد في سلامة أسباب انقطاع عمله، ومن ذلك الرغبة الزائدة في الخير بحيث يفعل شيئا لا يستطيع الدوام عليه، فالاعتدال مطلوب -أيها الحبيب- والنبي صلى الله عليه وسلم قد رتب أوجه الخير والنفقات، فقد قال لأحد الصحابة الذي لم يكن له مال إلا عبد، فعلق عتق هذا العبد على موته، يعني قال له: إذا مت فأنت حر، فالنبي عليه السلام أبطل هذا التصرف وباع العبد، وأعطاه النقود، وقال له: ابدأ بنفسك وتصدق عليها، فإن فضل عن نفسك شيء فلأهلك، وإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابة، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا.
هذا الحديث العظيم يبين لنا أولا الترتيب والأولويات، ثم يبين لنا أن ما ينفقه الإنسان على نفسه هو أيضا صدقة، وما ينفقه على أهله وقراباته هو أيضا صدقة، فاجتهد في التفقه في دينك ومعرفة الطرق الصحيحة التي تقربك إلى الله سبحانه وتعالى، وستصل بعون الله.
أما ما ذكرته من العمل فإذا كان عملا لا يتضمن معصية، بمعنى أنك لا تعين على معاصي، ولا توصل المحرمات؛ فإن هذا العمل مشروع، ويجوز لك أن تعمل فيه، وإذا منعتك أمك منه لمجرد الشفقة عليك، وليس لتخوف حقيقي لمخاطر حقيقية من وراء هذا العمل، فإنه لا يلزمك حينها طاعتها، ولكن ينبغي أن تترفق بها، وتستعمل الوسائل المعينة على إقناعها واسترضائها.
نسأل الله أن يوفقك لكل خير.