السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قصتي طويلة، وسأحكيها لكم باختصار، قصتي ربما كثير من الشباب يعاني مثلها، وهي هذه الدنيا التي نعيش فيها، نعيش في دنيا حقيرة، ملأت بالشهوات والشبهات، ونحن معشر الشباب ضعفاء أمام كل هذا.
أنا أعمل لمدة 12 ساعة في اليوم، لا أستطيع الذهاب إلى المسجد، ولكن أحاول جاهدا أن أصلي الفجر في المسجد، لكنني أنجح بضعة أيام فقط، أحاول أن أقوم الليل لكني لا أستطيع، حاولت أن يكون معدل نومي في اليوم أربع أو خمس ساعات مثل كثير من الصالحين، لكني لا أستطيع أن أقوم، وأصلي الفجر في البيت بصعوبة، ثم أنام مرة أخرى، مع أنه وقت تنزل فيه البركة، لكني متعب.
في كل مرة أحاول الاجتهاد وقراءة القرآن يوميا لكني أفشل، أحاول الابتعاد عن المعاصي لكني أفشل، لقد ماتت خالتي وأولادها وأناس أعرفهم بعد سيل الوادي، ومع ذلك أشعر أنه لم يتغير شيء في قلبي.
في كل يوم تقريبا أدعو الله أن يطهر قلبي، وأن يهديني، وأن يرشدني إلى طريق الخير والصواب، في كل مرة أدعو الله فيها أدعوه أن يجعلني من السبعين الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وأسأله الفردوس الأعلى، وأن يجعلني من الصديقين وأن يرزقني الشهادة في سبيله، لكني بعيد كل البعد عما أرجوه من ربي.
لا أدري هل طبع على قلبي أم كتب لي أني من الأشقياء؟ في كل مرة أشاهد فيها محاضرة أتحمس ولكني أضعف بسرعة، أنا خائف من ربي، وأحيانا أبكي، ولكني لا أعرف ما هو علاجي؟!
ساعدوني، أريد أن أخرج من غفلتي، ما هو دوائي؟ أرجوكم أن تراسلوني، وبارك الله فيكم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مصطفى حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -أخي الفاضل- في استشارات إسلام ويب، وأسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.
أخي العزيز: نشعر بكل ما تعاني منه، واعلم أخي -أعانك الله- أن أساس الفلاح في الحياة مع الصبر، والابتلاء طريق لتمحيص الصادق من الكاذب، لذلك -أخي- لا تتوقع أن تكون الحياة كما تتمنى أو تريد، يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، فالإنسان حياته مليئة بالمصاعب التي يتعلم منها، ويأخذ منها العبرة فتصبح أساسا لنجاحه، فالحياة في أساسها مكابدة للصعاب والشدائد، يقول تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه).
لذلك -أخي الكريم- عليك أن توطن نفسك أن الحياة دار مجاهدة، والجنة دار الصابرين يقول تعالى: (سلام عليكم بما صبرتم ۚ فنعم عقبى الدار) وبلوغ المكانة العالية والمنزلة الرفيعة لا يكون إلا مع الصبر والمجاهدة والمثابرة، وحسن الاستعانة بالله تعالى، يقول تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
أخي الفاضل: وجود هذه الحرقة في قلبك والرغبة الشديدة للتغيير في نفسك يجعلك في أول الطريق الصحيح، فالرغبة في التغيير أولها رغبة قوية، تتحول إلى عزيمة صادقة تندفع نحو التغيير، كما قيل: "تألمت، فتعلمت، فتغيرت"؛ فكونك ترغب في تغيير نفسك فلا بد من أن تبدأ في أول خطوات التغيير وهي المبادرة إلى السعي والاجتهاد والعمل، وأن لا تبقى تتمنى وتحلم دون أن تبادر في السعي والحركة نحو تحقيق أهدافك، فإن التمني مع القعود يحزن القلب، وهو سبيل الشيطان الذي قال كما أخبر -سبحانه وتعالى- عنه: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا).
المبادرة تقتضي منك أن تبحث في نفسك وتحاسبها عن مواضع الزلل والخطأ والضعف التي تتسبب في إضعافك في مسيرك إلى الله، وأن تعرف مداخل الشيطان ومكائده، وتجتهد في إغلاقها وتحصينها بالتربية والتزكية، حتى لا تكون منفذا يألفه الشيطان للدخول إلى قلبك.
أخي الفاضل: اعلم أن أفضل دواء يحرك الجوارح للطاعات وينهض بالهمة لبلوغ القمة هو صلاح القلب وتزكية النفس، فالقلب إذا صلح تحركت الجوارح ونشطت في الطاعات، واستعذبت الصعاب في سبيل طاعة رب الأرباب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه.
كذلك تأتي تزكية النفس من الشهوات والشبهات، يقول تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، حتى تحقق ذلك في نفسك، وتجعله طريقا للعلاج والمبادرة والانطلاق نحو التغيير الذي تريد، عليك بتحقيق بعض الأمور:
أولا: عليك بالاجتهاد في تنمية وتقوية أعمال القلوب، من: الإخلاص، والإيمان، واليقين، والتوكل، والإحسان...إلخ، ومن أعظم ما ينمي هذه الأعمال في القلب، مجموعة من الأعمال الصالحة من أبرزها: ملازمة الدعاء بخشوع وخضوع، وقراءة القرآن بتدبر وتأمل، ومداومة الذكر مع حضور القلب، وملازمة الصالحين ومجالس الذكر ودروس العلم والمحاضرات والمواعظ؛ فكل هذا مما يحيي القلب.
ثانيا: الاجتهاد في تزكية النفس من خلال طلب العلم الذي يعرفك بأمراض القلوب، ومداخل الشيطان، وآفات النفس وعلاجها.
ثالثا: التدرج في الأعمال فلا تتجه للأعمال الشاقة كقيام الليل مباشرة إلا بعد أن تحقق المحافظة التامة على السنن المؤكدة، ولا تبحث عن السنن إلا بعد العناية بالفرائض في وقتها، وحيث ينادى بها، وهكذا فالتدرج يساعدك على تقوية القلب للانتقال إلى مراحل أكبر في الأعمال الصالحة.
رابعا: احرص على المداومة ولو كان العمل قليلا، ففي الحديث يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
خامسا: اقرأ سير الأنبياء والصالحين، والفضلاء وأهل الحكمة؛ لتكتسب من همتهم في الخير، وترى كم عانى الكثير منهم في سبيل تحقيق ما يريد، ففي ذلك عظة وعبرة لمن كان له قلب، وفيه تسلية لقلبك، وإحياء لعزيمتك وهمتك.
أخيرا أخي: احرص واجتهد أن تبلغ الوسع والطاقة بأن تتقي الله ما استطعت، فاحرص على الجماعة في المساجد في وقتها، فإن تعذر عليك فكون جماعة في عملك مع غيرك من العمال أو الموظفين، واحرص على ذلك، فإن تعذر فصل لوحدك مع كره ذلك في قلبك، واجتهد متى ما رأيت الجماعة أن تبادر إليها، وبنفس الوقت اجتهد في البحث عن عمل أفضل يعينك على الطاعات والعبادة.
أخي الفاضل، لا يوجد أحد معصوم من الزلل أو الخطأ أو الذنب، ولكن أهل الإيمان والتقوى يبادرون مسرعين للتوبة ومحو أثر الذنب، وإتباع الذنب بالحسنات، مع عدم الإصرار والتسويف، يقول تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
بادر -أخي- إلى التوبة النصوح، واجتهد في تحقيق شروطها الثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم على فعله، واعلم أن الله يفرح بتوبة العبد ويعينه عليها، ويسدده، متى صدق في قصده وأخلص لربه.
أخي، إن وجود الفتن والشهوات في الدنيا لن تنتهي حتى يبعث الله الأرض ومن عليها، وهذا من البلاء، ولكن المسلم لا يستسلم، ولا يغرق في الشهوات، ولا يعلن استسلامه أمام أي اختبار أو بلاء، بل يجتهد ويبذل الطاقة والوسع لصلاح نفسه ما استطاع لذلك سبيلا، قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم).
لذلك -أخي- يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره)؛ فلا بد من الصعاب، ولا بد من الامتحان والاختبار، لينال المراتب أصحابها الأجدر بها، فجدد العزم وشد الهمة، واترك لغة اليأس والضعف؛ لأنها تصيبك بالعجز والعقود.
نسأل الله أن يوفقك للخير، وأن يعينك على الطاعات، ويرشدك للطريق المستقيم.