السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
تركت عائلتي منذ ٦ أشهر، وسافرت للبحث عن الأفضل.
أنا أداوم على الصلاة، وأختم القرآن ختمة بعد ختمة، وأدعو الله دائما، ولكن لا أشعر أن الله معي، وصرت أشعر بعدم وجوده، وأموري دائما للخلف في كل شيء! وإني والله أبكي وأنا أكتب لكم، وأرجو منكم الدعاء لي.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ Ibrahim حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك - أخي الفاضل - في استشارات إسلام ويب، وأسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.
أخي العزيز: نشعر بما تمر به من مصاعب، وندرك أنك تمر بحالة من الضغط النفسي الناتج عن واقع الحياة الصعب الذي تمر به، وهذا الواقع يدفعك بقوة لهذه التساؤلات والتي قد تصل إلى الشك - والعياذ بالله - رغم أنك تصلي وتقرأ القرآن.
أخي العزيز: من طبيعة النفس البشرية عندما تنزل بها النوازل وتحل بها الكوارث، أن تبحث عن الأسباب في كل مكان عدا نفسها، لأن اتهام النفس نوع من المحاسبة القاسية التي لا تريدها، ولكن الله سبحانه يخبرنا بأن الإنسان طرف مهم جدا في تحقيق ما يريد، وأحد الأسس المهمة في التغيير على أي مستوى، فيقول تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11].
أخي العزيز: مجرد عمل الأسباب لا يكفي لتحقيق ما تريد، ولا بد أن يكون هناك تلاؤم وتناسق بين الأخذ بالأسباب وممارسة الطاعات وحسن التوكل عليه والإيمان به، فلا بد من أن تكون هذه الأسباب مدروسة بعناية لتثمر في المجال الذي تريد تحقيقه، ثم لا بد للإنسان أن يهيئ نفسه بالمهارات التي يظن أنها ستحقق ما يريد كالوظيفة التي يحتاجها، ثم لا بد أن يبحث في المكان المناسب والوقت المناسب وبطريقة مناسبة. كل هذه من الأسباب التي تعين الشخص في استفراغ الوسع والطاقة في بذل الأسباب بشكل صحيح، ثم مع بذل كل هذه الأسباب ضرورة التزام القلب بالاستعانة بالله تعالى والثقة بتوفيقه، وأن ما يريده الله هو الذي سيكون، لأنه سبحانه بعلمه المطلق وإحاطته الكاملة وقدرته، يعلم ما ينفع العبد وما يفسده، وبالتالي يفوض المسلم أمره لله تعالى وقلبه ممتلئ باليقين والثقة بقول الله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].
أخي العزيز: التفكير في لحظات الضغط النفسي غالبا تكون آثاره مندفعة ومتطرفة حتى تصل إلى حد الشك، وهنا يستغل الشيطان هذه اللحظات ويبدأ في إثارة الشكوك والشبهات، لأنها اللحظات المناسبة التي يكون فيها الإنسان شديد الضعف ومزعزع الثقة بربه ودينه، ويبحث عن أي حل يريح قلبه من الصراع الداخلي في نفسه، وكل ذلك يجعله يتجاهل البحث الحقيقي في الخلل وأسباب الإخفاق، لذلك قد تجد في هذه اللحظات مثل هذه الظنون، وهذا الظن خطير جدا، وهو ما يريد الشيطان أن يصل إليه، يقول تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} [الأنعام: 43]؛ لأن الشك بالله هو أولى خطوات الإلحاد -جنبك الله وحفظك من ذلك-.
أخي العزيز: علاقة المؤمن بالله تعالى ليست علاقة مقايضة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض، ولكنها علاقة عبد بخالقه، وهذا الخالق يمتلك الكمال المطلق في العلم والإرادة والقوة والحكمة ...إلخ، فإن حرم عبده شيئا فقد أعطاه أشياء، وإن ضيق عليه بشيء فقد وسع عليه أشياء. فتأمل من هم دونك من النعم التي تعيش فيها وأنت لا تشعر بها إلا اذا فقدتها، تأمل الفقير الذي يعيش حياة المرض وحلمه أن يرزقه الله العافية، تأمل في من هم دونك ستجد نفسك تلهج بالحمد لله على ما أعطاك وحرم غيرك، وكل ذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه.
أخي العزيز: لا تستسلم للغة اليأس والقنوط، ولا تسترسل مع هذه المشاعر السلبية التي لا تزيدك إلا عجزا وضعفا، وابدأ بمحاسبة نفسك وتنمية مهاراتك، وابحث في طرق ومجالات مختلفة، ووسع دائرة علاقتك لتساعدك في المزيد من الفرص، وعندما تجد أحد الطرق أمامك مغلقا فابحث عن غيره، واجتهد مع كل هذا بالدعاء الخالص لله تعالى، والمداومة عليه، ولا تستعجل الإجابة فإن النبي (ﷺ) يقول: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي)، فإن حرمك الله من شيء رغم كل ما تبادر فيه من دعاء أو تبذله من أسباب؛ فاعلم أنه الله سبحانه له في ذلك حكمة لا تعلمها، فكل الخير في ما اختاره الله.
أخي العزيز: لك أن تتأمل في تفاصيل وأحداث قصة نبي الله موسى والخضر - عليهما السلام - وما فيها من عظات وعبر في تقدير الله تعالى وسعة علمه، ولك أن تتأمل في قصة يوسف - عليه السلام - بعد الشدة والمعاناة كيف يأتي الخير، وتكون العاقبة للمؤمن الصالح، ولك أن تتأمل في حياة حبيبنا محمد (ﷺ) كيف عانى من الخوف والطرد، ثم أخلفه الله بعد ذلك العز والتمكين.
فاصبر أخي واجتهد في طاعة الله، واعلم أن لكل شيء حكمة ومقدارا وأجلا، فلست وحدك في طريق المعاناة والشدة، ولكن الصالح يثق بنصر الله وبوعده.
أخي العزيز: إن حصل لك ما تريد فالحمد لله، وإن لم يحصل فلست بخاسر، فكل دعوة لك فيها أجر، وكل عمل صالح لك فيه خير، فلا تعجل، واجتهد في التوبة النصوح من هذه الظنون وهذه الشكوك، فالله قد يبتلي عباده لحكمة، فمن صبر فله الأجر والثواب، ومن تضجر وتسخط لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أخيرا أخي العزيز: أحط نفسك بالصالحين والرفقة الطيبة، وأكثر من الطاعات بحضور القلب، وأكثر من ذكر الله تعالى حتى يطمئن قلبك، فإذا اطمأن القلب استطاع أن يسعى ويجتهد بروح كلها تفاؤل وثقة بالله تعالى، واسمع لوصية النبي (ﷺ) وهو يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن "لو" تفتح عمل الشيطان).
وبإذن الله مع كل هذا الوعي منك ستتغير حياتك، ويصبح سعيك مليئا بالثقة بالله تعالى، والله يقول في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء)، فأحسن الظن به سبحانه وتعالى، واجتهد في الأسباب المناسبة، والله لا يضيع من أحسن السعي والعمل.
أسأل الله أن يوفقك للخير، ويشرح صدرك لطاعته، وأن يفتح عليك من فضله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله الموفق.