السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنت مثالا في الاستقامة، وحفظ القرآن الكريم، والمداومة على العلوم الشرعية، وجلسات الفقه والعلم الشرعي، وسماع القرآن الكريم؛ إلا أنه حصل لي في حياتي عظيم الابتلاء بفقد الوالد والوالدة في خلال مدة أكثر من شهر!
أصبت بصدمة بعدها، وسلمت أمري لقضاء الله، ولكن لم يخل الأمر من سقطات وانهيارات نفسية، وللأسف لم أجد الدعم، وما كنت أجد نفسي تسأل الله الصبر، وفي نفس الوقت أتساءل: حينما كنت أدعو، وأتصدق لبقاء والدي كثيرا، فلماذا لم يستجب لي الله؟! الآن أنا راضية بقضاء الله، ولكن هناك نوع من نكران ما حدث حتى مع زيارة القبر.
انقلب حالي تماما الآن، وأصبحت أذنب وأتوب، وأذنب وأتوب، وأنا حزينة جدا لذلك، وأخاف من غضب الله علي، وعدم تقبل توبتي، بدليل أني لا أستطيع العودة إلى ما كنت عليه، حتى العمل تركته بسبب حدوث أزمة لي، وحتى بعد التعافي لم تعد لي عزيمة على ذلك.
كنت مثالا للطاقة، وللذكاء في كل شيء، والآن أصبحت لا شيء، ولا أستطيع تجاوز أن الله يسترني، ويراني الناس مثالا للأخلاق والأدب، وأنا من داخلي أعلم أني أصبحت عكس ذلك، وأستحي من الله من ذنوب الخلوات، ومن جميع ذنوبي وأتوب وأستغفر، ثم أعود مرة أخرى.
حتى الصيام كانت أمي -رحمها الله- تشجعني، والآن أبحث عنها في صلاة الفجر لنصلي سويا، ولا أجدها، ولا أجد من يعينني، أو ينتشلني مما أنا فيه، وأخاف أن يأخذني الموت فيحزن مني والداي على ما وصلت إليه.
عذرا على الإطالة، وجزاكم الله كل خير.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Zahra حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
في البداية: نسأل الله الرحمة والمغفرة لوالديك، وأن يجعل مثواهما الفردوس الأعلى، وأن يربط على قلوبكم جميعا بالصبر والإيمان بقضاء الله وقدره.
أختي الفاضلة: ينبغي أن تعلمي قضية مهمة، وهي أن " دوام الحال من المحال "؛ فالإنسان مهما بلغ من الإيمان والخير تأتي عليه لحظات يتراجع فيها ويضعف، ويحتاج إلى اجتهاد ليعود إلى ما كان عليه، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم مائة مرة)، ومعنى يغان: أي يضعف القلب عن انفعاله وإقباله، فيكون الاستغفار زادا لتقوية القلب حتى يبقى على حالة من القرب الدائم من الله تعالى، والله يقول: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، فالنفس لها إقبال وإدبار ونشاط وضعف، وعلى المسلم أن يجتهد في لحظات الإقبال فيكثر من الخيرات، وفي لحظات الضعف عليه أن يجتهد أن لا ينحدر إلى المعصية، فيكتفي بالفرائض حسب حاله، وفي نفس الوقت يسعى لإصلاح نفسه واستقامتها بقدر استطاعته، يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).
أختي الفاضلة: التسليم الحق لقضاء الله يستلزم الرضا التام عن أقدار الله ومقدرها سبحانه، واعتقاد القلب أن ما قدره الله خير ولو كان ظاهره غير ذلك، يقول تعالى: (وعسىٰ أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ۖ وعسىٰ أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ۗ والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، لذلك يؤجر العبد على ما يصيبه من النوازل والأحداث إن هو صبر واحتسب ورضي، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) رواه البخاري.
كما أن الصبر والاحتساب، وإلزام النفس بما يرضي الله عند نزول المصيبة؛ هو دليل الإيمان والصدق مع الله، ففي الحديث القدسي: (يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة)، رواه البخاري.
أختي الفاضلة: أعظم الدعم وأصدقه هو الدعم الذي يأتي القلب من التزامه بأمر الله تعالى، والالتجاء إليه ساعة الشدة والرخاء، يقول الله تعالى: (وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)؛ لذلك عليك -أختي- حتى تخرجي مما أنت عليه، وتعودي إلى الإقبال على الخير أن تجتهدي في بعض الأمور:
أولا: التوبة الصادقة إلى الله، وتحقيق شروطها الثلاثة من: الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم الرجوع إليه، والندم على فعله.
ثانيا: اجعلي لنفسك حظا وافرا من عبادات القلوب، ومن أعظمها الدعاء، وذكر الله تعالى على كل حال، والإكثار من تلاوة القرآن بحضور قلب وتدبر.
ثالثا: من المهم أن تخرجي من دائرة الحزن على فقد والديك إلى المبادرة إلى ما ينفعهم في آخرتهم، ابتداء بالدعاء والاستغفار لهم، ثم بالاجتهاد في الدعوة إلى الله؛ لتكوني أنت صدقة جارية صالحة في صحيفتهم يوم القيامة، وهذا خير ما يقدمه الابن لوالديه بعد رحيلهما: بأن يكون ولدا صالحا يدعو لهما، وأن يكون سببا في نشر الخير بين الناس، وهذا الفعل يخرجك من البقاء في ذكرى ألم الفراق التي تسبب لك التراجع والحزن الدائم، والعجز عن الرجوع إلى ما كنت عليه.
أخيرا: حالة الخجل والشعور بالذنب من التقصير والذنوب هي أول مراحل إصلاح العلاقة مع الله تعالى، ولا بد أن يكون هذا الألم دافعا لك لمزيد من الخير والصلاح، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الندم توبة)، ولن يخرجك من واقعك هذا إلا المبادرة إلى الخير والسعي فيه، والاجتهاد في ملازمة الرفقة الصالحة التي تعينك على الخير، وتشغلك بالأعمال الصالحة والنافعة.
نسأل الله أن ييسر أمرك ويوفقك للخير.