السؤال
السلام عليكم..
بعد هذا العمر 42 سنة، أحاول أن أملك نفسي من البكاء بصعوبة أمام المواقف التي تحكي عن الوفاة، حتى وإن كان فيلما سينمائيا، أيرجع ذلك إلى تنشئتي؟ حيث توفي والدي ولم أره! وتولت والدتي تربيتي، أم لأني مصاب بشلل أطفال منذ الصغر؟ وهل لذلك تأثير على حياتي وقراراتي؟ وبماذا تنصحونني؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حمى المقدم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أعتقد أنك تقصد أنك تميل للبكاء أمام المواقف التي تتحدث عن الموت أو الوفاة، فأنت سريع التأثر وتميل للبكاء في مواقف ربما يتحملها الآخرون، أو ليس من المفترض ذلك، وحتى تأثرك بالأفلام السينمائية وبالطبع ربما تكون الأفلام الهندية، لأني أعرف ذلك جيدا منذ طفولتي أن الكثير يتأثر بها.
بالطبع، ربما تكون مرحلة طبيعية في حياة كثير من الناس في مرحلة عمرية معينة أن يتأثر الإنسان بالمواقف المؤثرة؛ لأنه أصلا يقوم على الوجدان والعاطفة والرحمة.
فيما يخص تأثير التنشئة وفقدان الوالد أو الوالدين، فهذه القضية حقيقة هي قضية خلافية في الطب النفسي، فهنالك من يرى أن فقدان أي من الوالدين في عمر مبكر قبل عمر الحادية عشر، أنه ربما يؤثر بصورة سلبية على التكوين النفسي ووجدان الإنسان، ولكن هذه الدراسات هي دراسات فرضية ولا أعتقد أنها تنطبق على مجتمعنا؛ لأننا نحن توجد لدينا الأسر الممتدة والتواصل والأرحام، وهذا في نظري يكفي جدا، كما أننا نعرف أن هنالك من تربوا في مراكز الأيتام والحمد لله هم في منتهى القوة من الناحية النفسية والوجدانية.
فالتفسير الأفضل والأكثر قبولا هو أنه بطبعك، أن البناء النفسي لديك فيما يخص الشخصية يقوم على سرعة التأثر، فلكل إنسان شخصيته ومكوناته النفسية الداخلية التي قد تؤثر فيه، فإننا نعرف أنه بنفس المستوى أشخاص لا تؤثر فيهم المواقف التي تتطلب التأثر، وهذا هو الإنسان الوسطي العادي.
إذن هو استعداد شخصي لديك، استعداد في شخصيتك، ولا أقول: أنه يرجع لوفاة الوالد ثم تولت الوالدة التربية، فأنا على ثقة تامة أنها قد أحسنت تربيتك وأنها قد قدمت لك كل ما تستطيع، وحقيقة لا أرى أن ذلك سبب مباشر، وإن كنت لا أستطيع أن أنكره؛ لأن الدراسات العلمية أشارت لذلك كما أشرت سابقا، وإن كنت أرى أن هذه الدراسات لا تنطبق على مجتمعنا حقيقة.
بالنسبة لإصابتك بشلل الأطفال، فأسأل الله أن يجعلك من الصابرين على هذا الابتلاء البسيط، وصدقني أن الكثير من الذين أعرفهم أصيبوا بهذه العلة لأنهم لم يتح لهم فرصة التحصين، وأعرف أطباء زملائي مصابين بهذه العلة وهم في منتهى القوة وفي منتهى الإنتاجية والمقدرة والإبداع.
إذن أرجو أن يكون هذا الابتلاء حافزا لك بأن تكون أكثر قوة وأكثر حنكة وتحكما في عواطفك، فالحمد لله أنت تخطيت كل المراحل التي ربما يؤثر عليك فيها شلل الأطفال، وهي مراحل (الطفولة، والدراسة والطلابية)، فأنت الحمد لله الآن رجل مهني ولا أعتقد أبدا أن هذا الشلل سوف يؤثر عليك سلبا، ولا أرى ذلك ويجب ألا يجعلك تشعر بأي نوع من الدونية.
وأود أن أنصحك أن تتذكر أنك رجل صاحب مهارات وأن مهنتك تتطلب الوقوف بصلابة في مواجهة بعض المواقف، فهذا مهم جدا، وأنا متأكد أنك تصول وتجول في ساحات المحاكم وأنك تساعد في آليات التقاضي، وأنك تعرف الكثير عن متطلبات مهنتك، وهذا في حد ذاته يتطلب أن تكون قوي الشخصية وألا تكون انفعاليا.
سؤالك الآخر عن البكاء في المواقف، فحقيقة المطلوب هو الصبر وأن يسأل الإنسان ربه الرحمة والمغفرة، فهذا الأمر الشرعي الصحيح، فإذا غلبه الدمع والحزن فهذا شيء يعتبر من الرحمة، ولكن لا يكون الأمر مبالغا فيه، فرجل في عمرك يتأثر لما يحدث في الأفلام وتعرف أنها قائمة على الباطل وليست صحيحة وهي استنزاف للناس، فهذه المشاهد وهذه المناظر في الأفلام هي قائمة أصلا على الخيال، وهذا المشهد الذي جعلك تنفعل لدرجة البكاء هو في الأصل منتفع من ذلك، وذلك من أجل الحصول على الأجر والمال، إذن هذه المواقف يجب ألا تؤثر فيك!
هنالك وسيلة أخرى: أن الإنسان حين يواجهه موقف عاطفي ووجداني ويؤثر فيه، فمن الحيل النفسية السلوكية الصحيحة هو أن يتذكر الإنسان موقفا مضادا لذلك، كأن يأتي مشهد مؤثر في أحد الأفلام فتحاول أن تأتي بما هو ضده ومخالف له من مواقف مرت عليك.
فالنسبة للوفيات، تذكر أن الموت حق وأنه هو الحقيقة الأبدية، وأنه لا مفر منه، وأن الأعمار بيد الله، وأن تسأل الرحمة لهذا المتوفي، هذا هو الشيء المفترض، وأنا أعرف أنك تعرف هذا الكلام لأنه من البديهيات، ولكني أريدك أن تعيشيها وجدانيا، أريدك أن تؤمن وتحقر هذه العواطف المتدفقة دون سبب، قل لنفسك: أنا رجل عمري 42 سنة، أنا رجل يجب أن أكون قويا، يجب أن أكون مقداما!
يجب أن تتذكر أن الإنسان قد تمر به ظروف يكون هو الشخص المؤهل لقيادة الآخرين، فحين تمر بموقف وجداني حاول أن تتذكر أنك الشخص الوحيد الذي يجب أن تنقذ الآخرين وترشدهم وتقوي من عزيمتهم وتكون مساندا لهم، فهذا أمر ضروري جدا ويعطيك القوة والاندفاع الوجداني الصحيح.
أنا لا أرى أنه من المفترض أن يكون في ذلك تأثير على حياتك وقراراتك، أبدا لا تكن انفعاليا، لا تكن عاطفيا، والذي أنصحك به هو أنه يجب أن تؤجل القرارات إذا كنت تحت ضغط نفسي أو وجداني، هذا هو الأفضل، فدائما يجب ألا يأخذ الإنسان القرارات الأساسية في مثل هذه المواقف، وحتى الغضب، والغضب يعتبر عاطفة في نظري وهو شيء من والوجدان، والعلماء أجازوا أن الطلاق لا يقع بفعل الغضب، فهذه العواطف حين تسيطر على الإنسان ربما تؤثر على قراراته، ولذا نقول على الإنسان دائما أن يتذكر حين ينفعل ويقول لا ليس هذا وقت لاتخاذ القرار، وهذا يساعد كثيرا.
أعتقد أنك إذا لجأت لحقيقة المنهج الإسلامي الإرشادي الديني فهو يساعدك كثيرا؛ لأن الدين يعلمنا الصبر، ويعلم الحكمة والروية والقدرة على اتخاذ القرارات وتحمل المواقف.
فحقيقة، كل من يتكلم عن الموت والخوف من الموت دائما يجد الحل في العقيدة الإسلامية السمحة، التي لن تترك شاردة ولا واردة إلا أخذت حقها في هذا السياق، فهذا أيضا يقوي كثيرا من عزيمتك ومقدرتك على مواجهة المواقف العاطفية، فأنت لست بمريض بل هذه مجرد ظاهرة، وعليك أن تتبع الإرشادات البسيطة التي ذكرتها لك، وبالتأكيد إن لديك اطلاعات في هذا السياق، ويمكن أن تستفيد من كل ما تراه مفيدا.
وبالله التوفيق!