الظنان والمخاوف وسوء التواصل الاجتماعي .. المشكلة والعلاج

0 759

السؤال

والسلام عليكم ورحمة الله
أعاني آلاما نفسية أتعبتني كثيرا في حياتي، وأريد أن أسمع رأي أحد المختصين لعل الله يجعل لي مخرجا من هذا العذاب..واسمح لي أن أسرد عليك قصتي ببعض التفصيل.
كانت طفولتي سعيدة جدا للغاية، وكنت تلميذا متفوقا في دراستي، وكنت دائما محل إعجاب أساتذتي وزملائي في الدراسة، وكان مشواري الدراسي جيدا جدا، حيث كنت دائما الأول على الصف منذ أن دخلت الحضانة إلى أن حصلت على شهادة الثانوية العامة...كنت طفلا خجولا لكني كنت جديا ومجتهدا وقضيت طفولة بدون مشاكل تذكر.
بدأت الأمور تتغير حينما سافرت إلى مدينة أخرى لإكمال دراستي في الهندسة، وكان عمري 18 سنة، ومنذ هذا السن بدأت متاعبي النفسية تطفو إلى السطح.
لم أكمل دراستي كمهندس حاسوب وغادرت الجامعة لأني أصبحت غير قادر على التركيز أو الاستمرار.
بدأت العلاج بالأدوية منذ سنة 1993.
تنقلت بين الكثير من الأطباء، وكانت حالتي تشخص على أنها خليط من اكتئاب عميق ورهاب اجتماعي ووسواس قهري تعسفي واضطراب وجداني، وربما أشياء أخرى لا أعرفها وقد يعرفها المختصون.
أصعب فترة كانت في التسعينات، حيث كنت أمر بحالات اكتئابية حادة أعاقتني عن ممارسة أبسط الأمور اليومية...فكنت أقضي ما بين ستة إلى سبعة أشهر دون أن أغتسل أو أقص شعري أو أحلق لحيتي أو حتى أغادر الفراش، وأنام أكثر من 17 ساعة في اليوم..خلال هذه الفترة القاسية كنت أشعر بخوف كبير كلما طلعت الشمس في الصباح وأحاول أن أغيب نهائيا عن الوعي بالاستغراق في النوم لساعات طويلة...والغريب أنه عندما يقترب غروب الشمس أشعر بفرحة وسكينة وأحس نوعا ما بالأمان.
خلال هذه السنوات السبع أيضا كنت يوميا أرى كوابيس في نومي، وكان الكابوس هو هو دائما لا يتغير..كنت أرى أحد الطلاب الذين كنت أدرس معهم في طفولتي وهو يحاول أن يتحرش بي جنسيا فأبدأ وأنا نائم أركل برجلي وأصرخ حتى تأتي أمي لتوقظني وأدرك أنه الكابوس اليومي الذي لا يفارقني.
جربت الكثير من الأدوية وأستطيع أن أذكر لك ما أذكره الآن:

Soliane 200 mg
Prozac
Deroxate
Haldol
Lexomil
Artane
Nozinane

وأدوية أخرى نسيتها الآن..أنا الآن آخذ ربع حبة سوليان ونصف حبة زيروكسات ..لكنني لم أعد أزور أي طبيب لأني لم أعد أملك المال لدفع أجرة الطبيب كل شهر...وقد أنفقت خلال فترة مرضي أموالا طائلة حتى أفلست ولم أعد قادرا على تحمل تكاليف زيارة الطبيب.
حينما أكون في عزلتي وبعيدا عن الناس وضغوطهم تكون حالتي جيدة وأشعر نوعا ما بالراحة..لكن حينما أحتك بالناس أشعر بالقلق والاضطراب وأحس أنهم يحتقروني ولا يحترموني. لكني متأكد أنها ليست مجرد هلاوس أو هواجس بل هي حقيقة، وربما المشكلة أني لا أعرف كيف أتعامل مع هذه السخرية بالحكمة والهدوء اللازمين.
بعض المسئولية تقع على والدي فهما شخصان ساذجان جدا وليست لديهما خبرة كبيرة في الحياة ولم يعطوني وإخوتي أية مهارات اجتماعية أو تربوية... وأنا لست وحدي من يشكو من هذا، بل كل إخوتي قالوا نفس الملاحظة لوالدي..لكن بقية إخوتي أكثر مني صلابة وقوة ويستطيعون أن يتدبروا أمورهم بشكل أو بآخر.. مؤخرا اعترفت لي والدتي بذلك وهي تبكي وقالت لي: يا بني أنا وأبوك شخصان ضعيفان ولا نعرف في أمور الحياة كثيرا، لكننا قمنا بكل جهدنا وعلى قدر ما علمنا الله لتربيتكم.. وأنا أوافقها وأعذرها هي ووالدي ..
خلال السنوات الأربع الأخيرة فقدت القدرة نهائيا على التواصل مع الناس وحبست نفسي في البيت.. أشعر أنهم يكرهوني كثيرا، وأصبحت أحقد على كل المجتمع حولي وأحتقرهم وأتمنى الانتقام منهم جميعا.
كما أني لاحظت منذ بدأ استعمال زيروكسات أني أصبحت عدوانيا جدا، وأحيانا أصبح خطيرا وأضرب كل من في البيت حين أغضب وتتملكني حالة هستيرية حادة تجعلني أضرب كل ما تقع عليه يدي.
تتأرجح حالتي بشكل غريب بين الاستقرار والانتكاس ..لكن الانتكاس مرتبط دائما وأبدا بخروجي إلى الشارع ومخالطة الناس..لقد أصبحت أبغض أهل بلدي كثيرا، وأتمنى أن ينتقم الله منهم بما سببوه لي من أذى.
ملاحظة أخرى: أني متدين جدا منذ صغري وأحافظ على الصلاة وقراءة القرآن ..ووجدت نفسي في الخلوة والمناجاة لله حيث أشعر بالرضا والسعادة ...لكن هذه السعادة سرعان ما تفسد وتنقلب إلى هم وكرب كلما آذاني الناس بسخريتهم ..لا أدري لماذا لم أستطع أن أدرب نفسي على احتمال الأذى رغم أني أقرأ كثيرا ومثقف ومستواي العلمي يحسدني عليه الكثيرون...كما أن بعض من يعرفوني جيدا يشهدون لي برجاحة العقل والذكاء؛ لكن هذه المميزات لا تظهر أبدا في تعايشي مع من لا يعرفني، ويحكمون علي بشكل سيئ ربما من خلال المظهر الخارجي، لا أعلم!
عمري الآن 34 سنة لم أحقق أي شيء في حياتي، لم أتزوج وأعمل بشكل متقطع -عمل انطلاقا من البيت-لا يضمن لي الأمان من غدر الزمان... الآن معتمد كليا على والدي اللذين يقومان بتوفير كل حاجياتي كالأكل وخلافه .. أشعر بالقلق من المستقبل ولا أدري من سيرعاني بعد وفاة والدي.
هناك تفاصيل أخرى مهمة لم أتطرق إليها ممكن أن أبعثها لاحقا إن وجدت اهتماما بحالتي من أحد المستشارين هنا وفقهم الله.
أعتذر عن الإطالة لكني أردت أن أذكر التفاصيل، فربما دلني أحد المختصين على ما أعانيه وما يجب علي أن أفعله.

والسلام عليكم ورحمة الله.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عثمان حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

بارك الله فيك وجزاك الله خيرا.

أخي، لقد وجدت رسالتك إن شاء الله كل الاهتمام، وقد اطلعنا عليها بالتفصيل، وأنت سردت الحقيقة الظروف الصحية النفسية التي مررت بها بكل دقة، مما إن شاء الله يكون قد أوصلنا للتشخيص الصحيح.

أخي، أود أن أركز على حقيقة، وهي أنه الآن قد انحصر المرض تقريبا في عدم القدرة على التواصل مع الناس، وعدم الشعور بالطمأنينة لنوايا الآخرين، ولابد أن أقول لك إن سوء التأويل أيضا قد سيطر عليك لدرجة كبيرة، مما جعلك تكون منعزلا وغير متفاعل مع الناس.

هذه الحالة الظنانية هي حالة مرضية معروفة لدينا، أرجو أن لا تنزعج لكلامي هذا، ولكنك ما دمت تطرق أبواب الحقيقة، فلابد لنا أن نكون صادقين معك، الحالة بالتأكيد تدرجت من مخاوف وقلق، واكتئاب واضطرابات وجدانية، وهذا هو التاريخ الطبيعي لهذه الحالة في كثير من الناس، بعد هذا التدرج تنحصر الحالة في الانسحاب الاجتماعي، والانسحاب الاجتماعي مرده هو فقدان الثقة في القدرة الذاتية، وكذلك التخوف من نوايا الناس.

الذي أود أن أقوله لك يا أخي:

أولا: أنت صاحب مقدرات وصاحب موهبات، كما هو واضح من رسالتك، فيا أخي لماذا لا تستغل ذلك؟ لماذا يا أخي لا تبدأ في عمل بسيط حتى ولو كان لا يرقى لمستوى تطلعاتك؟ لأن الاستمرارية والعلاج بالعمل يعتبر شيئا أساسيا.

أنت ذكرت شيئا عن مظهرك، لماذا يا أخي لا تهتم بمظهرك؟ هذا ليس أمرا صعبا، ضع لنفسك برنامجا يوميا، ترتب فيه نفسك، تذهب إلى العمل، تتواصل مع الآخرين، ويمكن أن يكون هذا التواصل في دائرة ضيقة جدا.

ابدأ في رفقة المسجد، دائما هي رفقة عظيمة قائمة على الثقة، ثم بعد ذلك وسع دائرة التواصل.

أخي، حين تأتيك فكرة سلبية عن الآخرين، حاول أن تقول لنفسك أنه يوجد احتمال أن فكرتي ليست صحيحة، ربما أكون أنا اعتقدت خطئا أن هذا الشخص هو كذا وكذا، ولماذا لا يكون هذا الشخص على النقيض من الذي أعتقده أنا؟ هذا الحوار الداخلي يقلل من هذه الأفكار الظنانية.

الجزء الآخر في العلاج يا أخي وفي رأيي هو العلاج الأساسي جدا، هو العلاج الدوائي، أنت تنقلت بين أدوية كثيرة، وأنا لا أعتقد أنك الآن في حاجة للديروكسات أو الزيروكسات كما نسميه هنا.

أنت في حاجة لدواء مثل السوليان، فالسوليان دواء جيد جدا، وأنا أتفق معك، ويوجد دواء آخر يعرف باسم رزبريدون، يعتبر أيضا دواء جيد جدا لمثل حالتك، وهنالك الآن دواء جديد أيضا يعرف باسم ابليفاي ( Abilify ) ولكن ما دمت أنت على السوليان، استمر على تناول السوليان، توقف عن تناول الديروكسات، وجرعة السوليان ليست صحيحة، الجرعة التي تتناولها الآن لابد أن ترفع، والجرعة العلاجية الصحيحة في حالتك هي 200 مليجرام، ثلاث مرات في اليوم، أي 600 مليجرام، هذه أقل جرعة يمكن أن تؤدي إلى فعالية حقيقية في حالتك، وأوقف أي دواء آخر، لا تتناول غير هذا الدواء.

أما إذا أردت أن تجرب الأدوية الأخرى وهي الرزبريدون، فهنا لا داعي لاستعمال السوليان، وجرعة الرزبريدون تبدأ بجرعة 2 مليجرام ليلا لمدة شهر، ثم ترفع إلى 4 مليجرام ليلا، وهي جرعة كافية جدا.

أما إذا أردت أن تجرب العلاج الجديد وهو الإبليفاي فهو دواء جيد، ولكن يعاب عليه أنه مكلف بعض الشيء، جرعته هي حبة واحدة 15 مليجرام في اليوم، ولكن ما دمت أنت على السوليان، استمر عليه أيها الأخ الفاضل.

هناك آليات للتواصل أخرى، آليات طيبة، مثل مممارسة الرياضة، الرياضة الجماعية أخي سوف تجعلك تتمازج وتتفاعل مع الآخرين، سوف تجعلك تخرج من هذه القوقعة التي فرضتها على نفسك، أنا لا ألومك مطلقا، ولكن لابد أن تقوي من إرادتك، لابد أن تكون لك الدافعية، وأن يكون لك الإصرار، إصرار الفعالية، إدارة الوقت بصورة جيدة، أخرج مارس الرياضة لمدة 40 دقيقة إلى ساعة في اليوم، كرة القدم تعتبر من الرياضات الجيدة، الجري والمشي وجد أنها تحرق الطاقات النفسية السلبية وتبني طاقات نفسية إيجابية لدى الناس، كما أنها تحرك الموصلات العصبية، التي ربما تكون تسببت في هذه الحالة النفسية التي أصابتك كما ذكرت لك، حضور حلقات التلاوة ورفقة المسجد تجعلك تكون أخوة وصداقات تثق فيها.

انضم يا أخي لأي جمعيات خيرية، كن مواصلا لأرحامك، وابني دائرة من الأصدقاء، يمكن أن تكون هذه الدائرة صغيرة، أخي هذا العلاج التأهيلي السلوكي يعتبر علاجا أساسيا لك، وأنا أعتقد وأسأل الله أن يتم ذلك أن الدواء سوف يحرك فيك الكثير من الدوافع الإيجابية، ولكن عليك أن تدعم الدواء بالإصرار على فعل الإيجابيات التي أرشدتك بها.

بالنسبة للوالدين، أسأل الله لهما طول العمر والعافية، ويا أخي أنا لا أؤمن أبدا بما يسمى بتقصير الوالدين في الصغر، الوالد لا يقصر في حق أبنائه، ربما يكون هناك اختلاف في المنهج التربوي، ويا أخي حتى لو كانت الطفولة صعبة وقاسية، وأنت لم يكن الأمر هذا في حالتك، هي مجرد تجربة يستطيع الإنسان من خلالها أن يطور من مستقبله وليس أكثر من ذلك.

عموما، أنت الآن الحمد لله رجل، واسعى لبر والديك؛ لأن هذا في حد ذاته إن شاء الله يساعدك كثيرا من الناحية النفسية والمعنوية، وأنت الحمد لله محافظ على صلواتك وقراءة القرآن، عليك الإكثار من الدعاء والأذكار، وهذا إن شاء الله أيضا يكون معينا لك.

أسأل الله لك التوفيق والشفاء والعافية.


مواد ذات صلة

الاستشارات