السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لماذا يظهر الرهاب عند البعض والبعض لا؟
على الرغم من مرورهم بنفس التجارب الأليمة والتربية القاسية من ضرب وإهانات، وكما نعلم أن أحد أسباب الرهاب الاجتماعي هي التربية القاسية في الطفولة والضرب والإهانات المستمرة أمام الآخرين، فكل هذه الأسباب تنشىء إنسانا ضعيفا ومهزوز الشخصية ولا يستطيع أن يواجه الآخرين ويخاف منهم ويتحاشى المقابلات والاجتماعات ويرتبك عندما يحادثه شخص وغيره من الأعراض التي تدل على أنه يعاني من مرض الرهاب الاجتماعي.
بينما أستغرب من أن هناك أشخاصا مروا بظروف قاسية وصعبة من ضرب وتحقير وإهانات وقسوة شديدة أثناء الطفولة لكن لم يتأثروا، بل بعضهم أصبح قوي الشخصية وقاسيا وظالما ويخافه الآخرون، وذلك مثل بعض الزعماء أمثال: هتلر وصدام وجوزيف ستالين وغيرهم الكثير، وأنا ذكرت هؤلاء من باب التوضيح فقط، فنحن لو تتبعنا طفولتهم لوجدنا أمورا قد مروا فيها يشيب لها الرأس، فهم قد عانوا من القسوة والمعاملة السيئة والتحقير، بل إنهم تشردوا في طفولتهم وعانوا من الحرمان العاطفي وغيرها من الأمور التي هي بالفعل تضعف الشخصية وتسبب إحباطات لدى الشخص وتؤدي إلى بروز مشاعر الدونية، وهي كافية لأن تسبب هذا كله، وعلى الرغم من هذا كله أصبحوا شخصيات معاكسة تماما وتحولوا من الضعف إلى القوة، فكيف يحدث هذا؟
ونحن نعلم أن الضرب والسب وغيره من أساليب التربية الخاطئة يؤثر على شخصية الإنسان بالسلب، فكيف هؤلاء الزعماء وغيرهم يمتلك شخصيات قوية وثقة عالية جدا في النفس تصل إلى درجة الغرور وغيره من الأمور التي توحي بالثقة في النفس.
وبالعقل والمنطق فإن الشخص إذا اعتاد الضرب والتحقير لفترة طويلة وعومل معاملة سيئة فكل هذا سوف ينعكس على شخصيته إلا إذا كان هذا الشخص لا يحس وليست لديه أي مشاعر فهذا شيء آخر، فما هو التفسير العلمي الذي يوضح هذا الشيء؟
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ السائل حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فالمبدأ العام للظواهر والحالات النفسية وسمات الشخصية وحتى لبعض الأمراض العضوية أنه توجد أسباب مرسبة وأسباب مهيئة وأسباب استمرارية، فالمرسبة هي البناء والمكون الجيني للإنسان والذي لا يمكن تغييره بسهولة، وبعد ذلك تأتي الشخصية التي بالطبع تؤثر فيها الجينات المتوارثة، وربما تؤدي التنشئة إلى بعض التحورات والتغيرات في الشخصية، ولكن إذا كان الطابع أو الجانب الجيني هو الأقوى فسوف لا يعطي فرصة للآثار التربوية لأن تنعكس على الإنسان، فهذه هي العوامل المرسبة التي تعتبر ركيزة أساسية لظهور أي ظاهرة أو عرض أو مرض نفسي أو حتى بعض الأمراض العضوية -كما ذكرت- مثل السكري والضغط، فالجوانب المرسبة فيها تعتبر جوانب هامة جدا.
وأما الجوانب المهيئة التي يقصد بها الظروف المحيطة بالإنسان والتنشئة والتربية والبيئة، ثم بعد ذلك تأتي عوامل استمرارية وهي مرتبطة أيضا بالعوامل المهيئة.
فإذا توفرت لدى الإنسان العوامل المرسبة، ثم بعد ذلك أتت العوامل المهيئة فسوف يعطينا النموذج المرضي، وهذا واضح تماما في أن بعض الأشخاص يتعرضون للرهاب أو الخوف دون غيرهم، فهؤلاء ربما لديهم الاستعداد وتكون لديهم عوامل الاستعداد أقوى وتكون العوامل المهيئة لديهم أضعف، والعوامل المرسبة في هذه الحالة هي التي تعطي الفرصة للتعبير والظهور المرضي.
وبعض الأشخاص لديهم استعداد شديد جدا للكثير من الظواهر والحالات النفسية، وبمجرد ظهور أي مهيئ يظهر المرض أو الحالة على السطح بالرغم من ضعف العامل المهيئ إلا أنه نسبة لوجود العامل المرسب (عوامل الاستعداد) بقوة هنا يحدث التفاعل وتكتمل حلقات المعادلة التي تؤدي إلى الحالة المرضية.
وبعض الأمثلة التي ذكرتها من الذين عانوا من صعوبات وفظاعات شديدة في طفولتهم كانت شخصياتهم قوية، وهؤلاء ينطبق عليهم نفس النموذج السابق وهو تفاعل العوامل المرسبة مع العوامل المهيئة وعوامل الاستمرارية مع الأخذ في الاعتبار درجة التفاوت بين قوة ومساهمة كل عامل من هذه العوامل.
وأيضا هناك دراسات كثيرة جدا توضح أن الذين عانوا من القسوة والظلم في حياتهم يحدث لهم نوع من البناء النفسي الداخلي الذي يقوم على الظلم وعلى القهر وعلى الشدة، فهي عملية تعويضية من المفهوم النفسي، فالكثير من الذين يضربون أبناءهم بقسوة وشدة تشير الدراسات أنهم قد ضربوا بشدة وقسوة حينما كانوا أطفالا، وهذا لا أقوله كنوع من البناء الانتقامي الداخلي ولكنه لا يخلو من ذلك أيضا، وهؤلاء الذين ذكرتهم وأمثالهم هم استفادوا من تجربة الماضي لتطوير المستقبل ولكن بكل أسف بصورة خاطئة.
وأتفق معك أن الإهانات المتكررة في الطفولة أيضا قد تؤدي إلى ضعف الشخصية، ولكن التفسير الآخر يجب أن نعتبره أيضا أن من ظلموا في طفولتهم وكانت هنالك فظاعات وقسوة عليهم انعكس ذلك لديهم في المستقبل بأن أصبحوا هم أيضا يحملون سمات العنف والشدة والظلم.
وهناك جانب مهم جدا يجب أن لا ننساه وهو أن شفرة الفضيلة تبنى لدى الإنسان، وهذه الشفرة تتكون منذ الصغر، والإنسان ربما يطور تجاربه السابقة ليستفيد منها في المستقبل ولكن هذا يعتمد على درجة وقوة ونوع شفرة الفضيلة التي بنيت لديه، وما هو سلبي في الماضي ربما يولد إيجابيات في المستقبل والعكس صحيح.
فهذا موضوع طيب وشيق وما أثرته فيه الكثير من البحوث، ولكن خلاصة الأمر تقوم ظواهر وحالات وسمات الشخصية على التفاعل بين العوامل المرسبة والعوامل المهيئة وعوامل الاستمرارية.
وبالله التوفيق.