السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا صاحبة الاستشارة رقم (269888)، وهي لصديقة لي، وبفضل الله عز وجل استفادت منها كثيرا، وسألت الله لكم بأن يجزيكم خير الجزاء ويبارك فيكم.
ولقد قامت بسؤالي سؤالا آخر قبل أيام، والسؤال يتحدث عن كيفية التخلص من خلق سوء الظن والغيبة؛ إذ إنها تشعر أن هذين الخلقين فيها، وتريد التخلص منهما في أسرع وقت ممكن، خاصة بعد وفاة عمتها لأنها أخطأت في حقها، وتريد التكفير عما فعلت، وأن تتوب توبة نصوحة، وسائلة الله أن يوفقها ويتوب عليها، ويغفر لها من ذنبها ما تقدم منه وما تأخر، اللهم آمين.
ولكي تكون الصورة واضحة لكم بحيث تعرض كما عرضتها علي، أود أن أعرض جزءا من الحوار الذي دار بيني وبينها؛ إذ إن طريقة السائل في عرض السؤال تختلف كثيرا عن الذي ينقل ما فهمه من السائل، فإليكم بهذا الجزء:
الأخت: أحتاج إلى إصلاح أمرين أفسدا على حياتي كلها: الغيبه وسوء الظن . وللأسف هما من أسوأ الأخلاق ولكنهما موجودان في نفسي.
الأخت: أحتقر نفسي.
فاعلة خير: لا تحتقري نفسك، وإنما احتقري هذين الخلقين، فهناك فرق.
الأخت: مثلا إنسانة تفعل أمامي شيئا يغضبني كأن تتكلم في حق أحد، فأذهب أشتكي لأمي وأتحدث عن ما فعلت وأغتابها.
ثم في القيام أتذكر ما فعلت، وأستغفر وأتوب، وسرعان ما أعود، ومحتارة.
لقد انتهى الجزء الذي أردت نقله، وأخبرتها أن لا تحتار، ووعدتها بأننا سنتعاون سويا إن شاء الله للتخلص من هذين الخلقين، وطلبت منها أن تعطيني فرصة للبحث لها عن طرق عملية تتبعها.
وكنت أرغب بالبحث عن ذلك بنفسي، ولكني أعاني من ضيق في الوقت مما يجعلني ألجأ إليكم لما أجد عندكم من رأي سديد ونصح قيم يتميز بالوضوح واليسر، مما يجعل القارئ أكثر استمتاعا واتباعا للإرشادات التي تذكرونها، وذلك بعد توفيق من الله وكرمه، خاصة عندما يتوفر الإخلاص والصدق كما نحسبكم، والله حسيبكم، ولا نزكي على الله أحد.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزي جميع القائمين على هذه الشبكة، ويبارك فيكم وبكم، ويبارك لكم في أوقاتكم وجهودكم، ويجعل جميع أعمالكم خالصة لوجهه، ويتقبلها منكم، اللهم آمين.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ فاعلة خير حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد أسعدنا طريقتكن في التناصح والمحاورة، وأفرحني شعور صديقتك بخطورة الغيبة وسوء الظن، وهنيئا لمن وهبها ربها بنفس لوامة، ومرحبا بكن مجددا في الموقع بين آباء وإخوان أسعدتهم روح المحاسبة للنفس والحرص على التخلص من الخلل والنقص.
ولا يخفى على أمثالكن خوف السلف الكرام من خطايا اللسان، حتى أمسك الصديق بلسان نفسه وجذبه وقال : هذا الذي أوردني الموارد، وهذا دليل على حرصهم وورعهم وخوفهم رغم أنهم كانوا يشغلون ألسنتهم بالخير وكيف لا نهتم بأمر اللسان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
والغيبة وسوء الظن من الذنوب التي تجعل الإنسان فقير يوم القيامة لأن الذين ظلمهم واغتابهم يأخذون من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
والغيبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم هي ذكرك أخاه بما يكره وهو غائب، فقال رجل يا رسول الله: (أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟) أنا قلت قصير وهو كذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهتان أكبر من الغيبة؛ لأنه يشتمل على الكذب والغيبة وسوء الظن والظلم.
وقد كان السلف يخافون من الغيبة لأنها تسلب الحسنات فكان قائلهم يقول: كيف أعطي حسنات تعبت في تحصيلها للناس، ما كنت لأغتاب أحدا، ولو كنت مغتابا أحدا لاغتبت أبي وأمي، وذلك لأنهم أولى الناس بحسناتي، وقال رجل للحسن البصري: بلغني أنك اغتبتني، فقال له الحسن: ما بلغت مكانتك عندي أن أحكمك في حسناتي، وبلغ الحسن أن رجلا اغتابه فأرسل له بطبق من رطب وقال له : إننا لا نستطيع أن نكافئك لأنك أعطيتنا من حسناتك، والتمر لا يسد مكان الحسنات، وهناك أمور تعين على ترك الغيبة بعد توفيق الله، منها:
1- اللجوء إلى من يجيب المضطر إذا دعاه.
2- تذكر عيوب النفس والاشتغال بعلاجها.
3- إدراك خطورة هذه الكبيرة وصعوبة الخروج منها حتى بعد التوبة لأن فيها حقوق للعباد .
4- شغل النفس بالمفيد، وتلاوة كتاب الله المجيد.
5- تجنب المجالس التي فيها غيبة والبعد عن المجاملات.
6- استحضار الصورة المقززة لمن تغتاب أخواتها ((أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه))[الحجرات:12].
7- إدراك الآثار المدمرة للغيبة على العلاقات بين الناس.
8- تعويد اللسان على ذكر الله وملازمة الاستغفار والصلاة والسلام على رسولنا المختار.
9- طلب السلامة بالكف عن أعراض الناس، فإن أسلم الناس من الأذى من يكف أذاه عن الناس، وشر الناس من سلم من لسانه كافة الأعداء ولم يسلم منه إخوانه وأخواته.
10- معالجة الدوافع الحقيقية للغيبة، والتي منها الحسد، والكبر، والعجب، وخبث النفس، والتملق.
11- إدراك القيمة العظيمة للأعراض وضرورة صيانتها.
وقد كان بعض السلف قد قرر أن يصوم يوما كلما يغتاب مسلما، قال فأجهدني الصوم ثم قرر أن يتصدق بدرهم كلما اغتاب مسلما، قال فحملني حب الدراهم على ترك الغيبة، وقد أحسن من قال :
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إلك مساوئا فصنها وقل يا عين للناس أعين
والمغتاب متبع للعورات، ومن تتبع العورات تتبع الله عورته حتى يفضحه في داره، والواجب على المسلمة إذا جلست في مجلس وسمعت غيبة أن تجتهد في النصح والإصلاح، كأن تقول دعونا من الناس، علينا أن نشتغل بعيوبنا، ثم تذكر ما علمت من محاسن أختها التي وقع الناس فيها، كأن تقول كما قال معاذ رضي الله عنه: (والله يا رسول الله ما علمت عنه إلا خيرا)، ولتفوز بثواب من يذب عن عرض إخوانه في غيبتهم، فإن لم يتوقفوا فعليها أن تترك المجلس وتنجو بنفسها لأن المستمعة للغيبة كالمغتابة، فإن لم تستطع فعليها أن تظهر عدم الرضى وتشهد الله بقلبها على كراهية المعصية.
أما إذا كانت هي التي كانت تتكلم وتقع في هذه الكبيرة، فعليها أن تعجل بالتوبة ثم تطلب العفو ممن وقعت في أعراضهن إذا كان ذلك ممكنا، ولا يترتب عليه منكر أكبر، وعليها أن تذهب إلى المجالس التي تكلمت فيها عن أختها بالسوء فتذكر محاسن أختها المظلومة، كأن تقول فلانة طيبة، وأنا في الحقيقة ظلمتها، فإن كانت لا تعرف من تكلمت فيهم اجتهدت لهم بالدعاء والاستغفار والصدقة، وما أعظمها من خطيئة يصعب على الإنسان الخروج منها، ولم يكن غريبا أن يصعد عثمان بن عفان أيام خلافته وفي يده سوط، ثم يخطب الناس ويقول لهم: أيها الناس، هذا عرضي فمن اعتديت على عرضه فليأخذ بحقه، وهذا ظهري فمن ضربت له ظهرا فليتقدم ويأخذ بحقه، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم .
أما بالنسبة لسوء الظن فإنه أكذب الحديث، وقد جاء النهي عن سوء الظن في كتاب الله قال جل وعلا يوصي المؤمنين: ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا))[الحجرات:12]، وسوء الظن من الأخطاء التي يأثم فيها الإنسان حتى لو حصل ما يصدق ظنه، وكان السلف يخافون من النميمة وسوء الظن، لأن صاحبها مسيء حتى ولو كان صادقا.
وسوء الظن ظلم عظيم، فكم من مرة يضيع شيء فتظن أن فلانة هي السارقة ثم ننهض من مكانها فإذا هو تحت ثيابنا، وكم فرق سوء الظن من جماعات، بل إن بعض الناس الأصل عنده هو سوء الظن، وذاك بلا شك دليل على فساد النفس وخبث الطوية نعوذ بالله من السوء والرزية.
ومما يعين الإنسان على التخلص من هذا الدواء بعد توفيق الله ما يلي:
1- اللجوء إلى من يجيب المضطر إذا دعاه.
2- أن يحب الإنسان لإخوانه ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكرهه لنفسه.
3- أن يضع نفسه مكان من أساءوا به الظن وهذا المعنى واضح في قوله تعالى : (( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا))[النور:12].
4- استعظام الاتهام وسوء الظن: (( وقالوا هذا إفك مبين))[النور:12].
5- كف اللسان عند مجاراة من يسيء الظن (( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم))[النور:16].
6- اصطحاب القاعدة الذهبية وهي: " أن المتهم بريء حتى تثبت التهمة".
7- وإداراك المعنى الشرعي العظيم وهو أن نجاة المجرم خير من اتهام البريء.
وهذه وصيتي لكما بتقوى الله، ثم بضرورة مصاحبة الصالحات، ومحاسبة النفس على الذنوب والهفوات، فإن أقواما حاسبوا أنفسهم في الدنيا فخف عليهم الحساب ورفعهم الله درجات.
وكم أنا سعيد بهذه الطريقة في النصح وبذلك الاستغفار الذي يعقب التقصير ويغسل الذنوب الصغار كما أن التوبة النصوح تمحو الذنوب الكبار، بل إن صدق التوبة والإخلاص فيها الواحد القهار يبدل السيئات إلى حسنات.
وأرجو في الختام أحيي نفوسكن اللوامة وأتمنى أن تحرصن على تنمية بذرة الخير في نفوسكن، ولكن مني البشرى بحرصكن على تربية النفس، فإن من سار على الدرب وصل، فأشغلن أنفسكن بطاعة الله عز وجل، واجتهدن في عد الخطايا والذنوب وسارعن بمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات وأنا ضامن لكن أنه لن تضيع عليكن حسنة واحدة، وأسأل الله لكن السداد والثبات.