السؤال
السلام عليكم ورحمة الله..
أولا: جزاكم الله كل خير على هذه الخدمة فقد تواصلتم معي من قبل.
عرضت عليكم جزءا من المشكلة من قبل لكن بدون ربطها بحالتي النفسية بعد تفكير عميق فيها.
وهي مشكلة مركبة اجتماعية ونفسية، فأنا آنسة عمري 21 سنة، من أسرة يشهد لها الجميع بالاحترام والتدين وحسن الخلق - بفضل الله والحمد لله - والدي يتمتع بمركز اجتماعي مرموق، فهو أستاذ بكلية الطب مشهور، أما أنا فتخرجت العام الماضي من كلية الآداب، وأدرس بالدراسات العليا الآن، ويشهد الجميع لي بالجمال وحسن الخلق، وحب الناس، والتواضع، وهو الصفة المسيطرة على أسرتي والحمد لله.
يعني باختصار كل ظروفنا ممتازة، سواء المادية أو الاجتماعية، لكن رغم ذلك فأنا دائما أشعر بأنني أقل ممن حولي، ولا أتماشى أبدا مع من هم في نفس مستواي الاجتماعي وصداقاتي من كل الفئات، خاصة ممن هم أقل مني، أعاني من أزمة الثقة بالنفس، رغم هذه العوامل التي من المفروض أن تزيد من ثقتي بنفسي، وأراعي التواضع في كل تصرفاتي، لكن بشكل غير إرادي، وبشكل مرضي فأخاف مثلا أن تراني زميلة لي وأنا أقود السيارة خوفا من اعتقادها أني أتعالى عليها، وأميل إلى التواضع والاسترخاص في كافة مشترياتي، رغم توفر المال.
وهذا الشعور السلبي الذي يحرمني من التمتع بما أنعم الله به علي، والثقة بالنفس، والتمتع بحقيقة وضعنا الاجتماعي خوفا من سوء تفسير الآخرين يجعلني الآن أحدد بعض المواصفات في اختيار شريك الحياة، مثلا أن يكون مركزه الاجتماعي مرموقا مثل والدي، وليس عاديا، وبالطبع على دين وخلق، وأرفض فكرة السفر للخارج بحثا عن المال، وهذا يجعلني أرفض العديد بدون مقابلتهم.
والسبب في وجهة نظري أني أحاول التخلص من الشعور بالدونية، وأني أقل من الناس، وأثبت لهم العكس، أني تزوجت من شخص مرموق ومحترم ومتدين يقدره الجميع ويرتقي بي. فأنا لم أشعر يوما بالتميز، على الرغم من مواصفاتي، وأني كنت ناجحة في الكلية، والآن أقوم بالدراسات العليا، لكن هذا الشعور ما زال يطاردني.
وأحيانا أحدث نفسي لماذا لا أتزوج شخصا غنيا من البداية، ولا أضطر للسفر للخارج؟ لم لا أتزوج شخصا مرموقا مثل أبي يشرف أبنائي كما تربيت؟ وذلك أيضا كرد فعل من داخلي لتواضعي المرضي، فأحاول أشعر نفسي بمواصفاتي
ومستواي الاجتماعي أو المادي الذي ممكن يجعلني أشترط عريسا به نفس المواصفات، لكن أيضا وأنا أقول ذلك أشعر باطمئنان داخلي لكن أرجع فورا وأشعر بأني غير مقتنعة بهذه الشعارات، فماذا أفعل بمفردي لا أستطيع الظهور بين الناس، فأتمنى زوجا صالحا مرموقا يعرف الآخرون من أنا ويقدرني الناس بسببه.
وأشعر بالضيق والحزن لمجرد تخيلي أني تزوجت من شخص أقل مني اجتماعيا، وأشعر أن الأمل الوحيد لي في الارتقاء بثقتي بنفسي تحطم.
فماذا أفعل وهل هذه وساوس وحرام علي رفض المتقدمين لهذه الأسباب رغم ضيق صدري؟ وما الخطوات المناسبة للتخلص من هذه المشكلة المعقدة؟
آسفة على الإطالة.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ م حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
بعد قراءتي وتصفحي لرسالتك لا أرى حقيقة أنك تعانين من مشكلة أساسية، فأنت - الحمد لله تعالى - قد أنعم الله عليك بالكثير من النعم على المستوى الشخصي وعلى المستوى الأسري، حتى ما أسميته بالدونية لا أعتقد أنه شعور حقيقي بالدونية أو النقص.
الإنسان لديه نفس حقيقية، ولديه نفس مأمولة، النفس الحقيقية هي وضعه الوجداني والاجتماعي والفكري وما يؤمن به وما يعتقد فيه، وكذلك مقدرته على التواصل والتكييف مع الآخرين، أما النفس المأمولة فهو ما يصبو إليه الإنسان، هذه النفس المأمولة كثيرا ما تكون غير قائمة على الواقع، بمعنى أن أحلام اليقظة تكون مسيطرة على الإنسان وتوصله من خلال توهمات معينة إلى الوضع الذي يجب أن يكون فيه.
والنفس المأمولة دائما تحدث الإنسان بأنه في وضع أرفع وفي وضع أفضل ويكون ذلك مغايرا للحقيقة إذا ابتعدت المسافة ما بين النفس الحقيقية والنفس المأمولة هذا يؤدي إلى صعوبات نفسية كثيرة، ويحاول المعالج دائما أن يقرب ما بين النفس المأمولة والنفس الحقيقية، أنت ليس لديك مشكلة حقيقية في هذا السياق؛ لأنك تتمتعين بالوضع الاجتماعي الجيد، والحمد لله لديك مقدرات معرفية وتحصيل دراسي وإنجاز جيد.
إذن النفس الحقيقية بالنسبة لك في وضع ممتاز، ولكن أنت ألصقت بنفسك ما أسميته بالدونية، وجعل هنالك نوعا من الصراع بين النفس الحقيقية، ولا أقول النفس المأمولة؛ لأن النفس المأمولة بالنسبة لك تتعاملين اجتماعيا ووجدانيا حسب وضعك الاجتماعي، فإذن لا توجد لديك مسافة شاسعة ما بين النفسين، وكل الذي أرجوه منك هو أن تجلسي مع نفسك وتبعدي هذه الصيغة الوسواسية عنك، وأنت تتحدثين عن التواضع، والتواضع من أعظم القيم الإنسانية النبيلة ومن تواضع لله رفعه، أنت يجب أن لا تعيبي ذلك على نفسك، والتواضع هو الذي يعملنا التواؤم مع أدواتنا ومع الآخرين، وهو - إن شاء الله - طريق وسبيل من سبل الخير والرحمة، ولا يعني هذا أن نقول لك كوني دائما مقيدة، وكوني دائما أنت التي تقبلين القليل، لا أقول لك هذا بالطبع، ولكن في نفس الوقت لا أنهى، فإذن المطلوب منك هو التوفيق بين الاثنين.
عليك أن تعيشي حياتك بقوة، وأن تعيشي الحياة بأمل، وأن تتفكري في الأشياء الجميلة في حياتك دون أن تظلمي نفسك، وتعتقدي أنك تعانين من الدونية وأنت لا تعانين من عقدة النفس أو عقدة الدونية، والذي لديك هو مجردة مشاعر وسواسية زائفة، حاوري نفسك وحقري هذه الأفكار، وهذه هي أفضل وسيلة في نظري.
لا أقول لك: إنه من الضروري أن تسايري أو تزاملي أو تأخذي القدوة من الطبقة الاجتماعية التي تناسب وضعك المالي، أنا في نظري كل الناس هم واحد والتواضع ميزة حميدة، وأنت لست محتاجة أن تكملي أي نواقص، ونفسك - إن شاء الله - كاملة، ولكن عليك فقط أن تصححي مفاهيمك.
أما بالنسبة للزواج فأي شخص في مستوى عقلك ومعرفتك ودينك فاقبلي به (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، فأنت -أيتها الأخت الكريمة- يجب أن يكون هذا المقياس الحقيقي بالنسبة لك، ولا تضعي الاشتراطات مطلقا، أن لا أسافر إلى الخارج أو أسافر إلى الخارج هذه أمور سابقة لأوانها في نظري.
أسأل الله أن يرزقك الرجل صاحب الخلق وصاحب الدين، الرجل الذي يحسن إليك وتحسنين إليه، وتعيشين معه على المودة والسكينة والرحمة، وبالطبع مراعاة وضعك الاجتماعي ووضعه، فأنا لا أقلل من هذه الأشياء، ولكنها ليس الشرط الأساسي، وأنا على ثقة كاملة أن أهلك وأسرتك وهم أصحاب المشورة الأولى لن يقبلوا أيضا إلا بمن هو مناسب، نعم أنت صاحبة القرار الأول والأخير، ولكن لابد من مشورة الأهل، أنا أقول لك أن هذه وساوس وليس أكثر من ذلك، وإذا رأيت هذه الوساوس فبإمكانك تصحيحها بالطرق المعرفية والسلوكية البسيطة التي ذكرتها لك.
والجانب الآخر في العلاج هو إذا كانت هذه الوساوس لم تزل بواسطة الوسائل السلوكية التي ذكرتها لك فيمكنك أن تتناولي عقارا يعرف باسم بروزاك كبسولة واحدة في اليوم لمدة ثلاثة أشهر، وهو من الأدوية الفعالة والطيبة جدا وسوف يساعدك -إن شاء الله- على زوال الوساوس، وسوف يزيل عنك هذا الضيق الذي تحسين به، ولكن العلاج الأساسي سوف يظل هو العلاج السلوكي.
وأرجو أن تطمئني تماما أن مجرد اقتناعك وإيمانك؛ لأنه لا توجد مسافة شاسعة بين نفسك المأمولة ونفسك الحقيقية، فهذا يعتبر الخطوة الأولى والأساسية في إقناع نفسك بخير، كما ذكر لك بالنسبة لاختيار الزوج يعتبر الخلق والدين هو الأساس، وبالطبع أنا لا أدعو إلى تجاهل الوضع الاجتماعي والوضع المادي للزوج، ولا شك أن استشارة الأهل دائما تعتبر أمرا ضروريا في اختيار الزوج مهما كنت أنت صاحبة القرار الأول.
أسأل الله تعالى أن يعافيك وأن يوفقك وأن يرزقك الزوج الصالح - وإن شاء الله - أنت مأجورة على هذا.
والشيء الآخر أرى أنك سوف تكونين إنسانة مثالية للانخراط في الأعمال الاجتماعية والأعمال الخيرية، وحبك للفقراء والمساكين والضعفاء وإن شاء الله سوف يؤتي ثماره، وسوف تحسين بالرضاء التام عن الذات، ولك الأجر من الله.
انتهت إجابة الدكتور محمد عبد العليم الطبيب النفسي
تليها إجابة الشيخ موافي عزب المستشار الشرعي:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك مرة أخرى في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا حقيقة تواصلك معنا في أي وقت وفي أي موضوع، وثقي وتأكدي من أننا نسعد بتكرار تواصلك معنا، ونسأله تبارك وتعالى أن يرزقك زوجا صالحا في مركز مرموق وأن يثبتك على الحق وأن يشرح صدرك للذي هو خير وأن يدفع عنك هذه الوساوس وتلك الأفكار السلبية، وأن يرزقك التواؤم والتأقلم مع نفسك ومع الواقع الذي تعيشين فيه.
بخصوص ما ورد برسالتك فلقد اطلعت على الرسائل السابقة وعلى الإجابة عليها، وأرى أنك تعانين فعلا من مشكلة عدم القدرة على التأقلم بصفة كاملة مع المجتمع خارج الأسرة؛ لأنك في داخل الأسرة تشعرين بأنكم - ولله الحمد - أسرة متميزة اجتماعيا وثقافيا وفكريا وماديا، وأن والدك - حفظه الله تعالى – يتمتع بصفات رائعة، وهذا من فضل الله تعالى وتوفيقه، وأنكم أسرة مترابطة متماسكة متفاهمة.
هذا الجو الطيب عندما تخرجين للواقع تشعرين أن وجوده يكاد يكون ليس بهذه الصورة الكافية، حرصك على أن تحافظي هذا المستوى في حياتك المستقبلية أيضا جعل لديك نوعا من التفكير الزائد والتصور المرهق، هل من الممكن أن نعيد صورة أخرى لحياتنا في مكان آخر، هل من الممكن أن أؤسس حياة زوجية مستقرة على هذا المستوى، كل شيء ممكن؛ لأن القضية - أختي الكريمة - ليست قضية إن والدك أستاذ مشهور في كلية الطب أو أن مستواه الاجتماعي مرتفع أو المادي، القضية هي قضية القناعة والرضا بما أنا عليه، إن السعادة مصطلح ومفهوم مطاط ليس محددا في إطار تفكيرك أنت أو تفكير غيرك، وإنما كل منا يستطيع أن يوفر السعادة لنفسه حتى وإن كان يعمل فراشا في مدرسة أو بوابا على باب عمارة، إذا رضي الإنسان بواقعه فهو سعيد.
ولذلك هذا الاضطراب الذي تعانين منه - والظاهر والواضح من خلال رسالتك – إنما هو خوفك من ألا تتكرر هذه الصورة لظنك أن هذه الصورة هي الوحيدة التي توفر السعادة وهذا ليس بصحيح، فقد يكون العامل من أبسط الناس ومن أقل الناس دخلا وعمله متواضع جدا وأسعد منكم في الواقع، ولكن أنت لا تشعرين به، يضحك من ملء قلبه وعنده من الصفات الرائعة كما عند والدك - حفظه الله – أضعاف أضعاف ما ترين أنت بنفسك عمليا؛ لأن الله تبارك وتعالى هو الذي قدر وجعل هذا التمايز بين الناس، ليس السعداء فقط - أختي الكريمة – هم أساتذة الجامعات، وليس سعداء فقط هم الأغنياء، والله إنك لتمرين في الواقع على أناس بسطاء جدا لا يملكون قوت يومهم والسعادة تبرز من عيونهم ومن وجوههم؛ لأنهم أكرمهم الله بالقناعة بما هم عليه؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس).
إن مشكلتك التي تعانين منها إنما هو أنك تريدين أن تنقلي نموذج أسرتك إلى مستقبلك وهذا ليس صحيحا؛ لأنه قد يأتيك إنسان مستواه متوسط يوفر لك سعادة أعظم مما رأيتها في بيتك، واسمحي لي في هذا التعبير لأني أتكلم عن واقع، قد لا أكون أستإذن في الجامعة كوالدك، ولكن قطعا أنا أوفر أشياء قد لا يوفرها والدك، ووالدك يوفر أشياء لا أوفرها أنا، لو سألت أبنائي عني لأعطوك تقريرا كما أنك تعطين تقريرا عن والدك، وقد يكون بيننا تفاوت في الدخل.
إذن ليست القضية قضية المركز الاجتماعي وليست قضية الشهادة الجامعية أو الوظيفة وليست قضية المال هي التي توفر السعادة، هل كل أساتذة الجامعات سعداء مثل والدك؟! بالقطع لا، هل كل الأغنياء سعداء كما أن والدك سعيد وأسرتكم متماسكة بهذه الصفة؟ لا، إذن التكيف مع الواقع هو السعادة؛ ولذلك نظرتك المرتفعة لشريك حياتك بأنه لابد أن يقوم بهذا المستوى نظرة وإن كانت واقعية إلا أنها لا توفر سعادة؛ لأنه قد يأتيك أستاذ جامعة ولكن ليس على مستوى والدك في الأخلاق، قد يكون على مستوى والدك في الأخلاق ولكن ليس على المستوى الاجتماعي، قد يكون على مستوى الأخلاق ولكن ليس على المستوى المادي، كم من أساتذة الجامعات دخولهم متواضعة جدا وقد يكون في مراكز حساسة جدا ولكنهم أيضا قدر الله أن تكون أرزاقهم متواضعة.
إذن أقول -أختي الكريمة-: إن السعادة هي شعوري بالرضا عن الواقع الذي أحياه، وأقول هذه مشكلة حقيقة لأنك رسمت صورة الحياة من خلال أسرتك فقط ونسيت أن هناك ملايين من الصور لأسرتك ولكن في مواقع مختلفة، قد يكون بعضهم -كما ذكرت- يعمل بوابا على عمارة ولكنه سعيد وأولاده سعداء جدا، هم لا يرون المال إلا القليل من الشهر للشهر ولكنهم سعداء يتفجرون طاقة ويتفجرون حيوية ويتفجرون رضى، ويتفجرون طاعة وعبادة لله تعالى، ولو سألتهم لقالوا: نحن أسعد الناس، ما في أحد في الكون أفضل منا، لماذا؟ لأنهم رضوا بهذا الواقع، لأنهم عاشوا الواقع الذي هيئ لهم.
ولذلك أقول -بارك الله فيك-: إن فكرتك هذه عن الزوج أتمنى أن تغيريها؛ لأنه ليس بلازم أن تكون السعادة في هذا المستوى الاجتماعي، فقد تكون السعادة في شيء غير هذا تماما، فقد يكون الإنسان دخله أقل من أبيك بمراحل ولكن السعادة يوزعها على من حوله أوسع مما تشعرين به أنت وتدركينه أنت الآن.
أنت وضعك الاجتماعي لم يسمح لك بالاختلاط بطبقات المجتمع المتعددة المتنوعة وهذا جعلك تظنين أن هذه الصورة لا توجد في غير بيتكم؛ ولذلك جعلك تحكمين بهذا الحكم ولكن في الواقع أنا أقول بأنك لو نزلت إلى الواقع وتم الاحتكاك بينك وبين عامة الناس - باعتبار أنك إنسانة متواضعة وتميلين للتواضع - ستجدين أن هناك أناسا فقراء ولكنهم أعظم سعادة، لماذا؟ لأن السعادة مدلولها كما ذكرت ليس محددا في كثرة المال أو في المنصب الاجتماعي أو الوضع الاجتماعي المرموق أو في المعارف الكبيرة، وإنما السعادة هي قدرتي على التأقلم مع الواقع الذي أعيشه، قدرتي على تفهم الواقع، توظيفي للإمكانات والطاقات التي أعطاني الله إياها بصورة صحيحة وسليمة.
ومن هنا أتمنى قضية الرفض هذه -رفضك للعديد من هؤلاء الذين تقدموا إليك- ما دام فيهم الدين والخلق أمر لا أقرك عليه وأرى أنه ليس صحيحا، أرى أنه ليس صحيحا بالمرة وأرى أنه لابد أن تعيدي النظر وأن تنظري في الواقع لتعلمي أن هناك كما ذكرت حالات كثيرة جدا من السعداء وليسوا أغنياء، حالات كثيرة جدا من السعداء وليسوا في الجامعات، حالات كثيرة جدا من السعداء وهم قد يكون عندهم من الأمراض ما يحتاج إلى مستشفى كامل لعلاجهم ولكنهم سعداء، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد مدلول السعادة بقوله: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس).
فأتمنى أن ترضي بقسمة الله وأن تتنازلي عن هذه المواصفات النادرة لأنها لن توفر لك ما تريدين، قد يأتيك إنسان صاحب خلق وصاحب دين ولكنه ليس غنيا لن تقبليه، قد يأتيك إنسان غني ومركزه مرموق ولكن ليس عنده دين لن تقبليه.. -أختي الكريمة– هذه مواصفات نادرة والنادر لا حكم له والشاذ لا يقاس عليه؛ ولذلك أريدك أن تقللي من هذه الشروط وأن تنظري نظرة واقعية وأن تتخيري الرجل صاحب الخلق والدين، القادر على إدارة حياته وإن كان بصورة أقل بكثير مما عليه والدك ما دام يستطيع أن يقدرك وأن يعاملك بالمعروف.
ثانيا: لا ينبغي أن تكتسبي العزة من زوجك أصلا وأن تجعلي هذا هدفا؛ لأن الله تبارك وتعالى جعل لكل إنسان مواصفات، والدتك -اسمحي لي- هل هي أستاذة في الجامعة؟ هل أحد يعلم عنها شيء؟ هي تشعر بالاعتزاز بالانتماء ولكن تبقى لها شخصيتها الخاصة وتبقى أنها تنحدر من أسرة، وأنا واثق حقيقة بأن والدك -حفظه الله تعالى- ليس شرطا ان يكون منأسرة مرموقة في المجتمع بل قد ينحدر من أسرة بسيطة؛ لأن هذه الأخلاق لا تتأتى مع البطر والغنى، وإنما هو رجل عاش في بداية حياته بداية بسيطة متواضعة فاكتسب التواضع من تلك الأسرة البسيطة.
أقول -أختي الكريمة- إنك الآن مدرسة لغة إنجليزية هل هذه وظيفة في القمة؟ قطعا ليست كوظيفة والدك، ولكنها وظيفة رائعة لأنك تعلمين الناس وتقدمين خدمة وتأخذين على ذلك راتبا حتى وإن كان بسيطا فأنت تؤدين دورا؛ ولذلك أقول لك – بارك الله فيك – إن فكرة رفض سفر الزوج للخارج هذا ليس صحيحا؛ لأنه كما ذكرت إن الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق في الأرض فجعل هذا البلد غنيا بالموارد الطبيعية، وجعل هذا البلد غنيا بعقول أفراده، وجعل هذا البلد غنيا ببعض الصناعات التي قد أنجزها أبناؤه؛ ولذلك كما أن هناك هجرة للأموال فهناك هجرة للعقول، عقول مبدعة، عقول خلاقة، عقول قادرة على الإنجاز، وهذا من مكان إلى مكان حتى تعمر هذا المكان؛ ولذلك ليست القضية قضية المال فقط حتى وإن كان المال هو الدافع ولكن الله شاء ذلك حتى تحدث هناك تبادل ثقافات ومعارف وتبادل أموال وأسرار وغير ذلك؛ ولذلك ليس كل سفر بنية المال عيبا بل إنه نوع من الأخذ بالأسباب، وكم من أناس سافروا ويسر الله لهم أمورهم ووسع عليهم وأصبحوا أيضا في عالم الدنيا لهم قيمة، أصبحوا رقما كبيرا في عالم المال وفي عالم الأخلاق وفي عالم نفع الناس، أنا أعرف أناسا سافروا للخارج وسع الله عليهم يتصدقون شهريا بآلاف الجنيهات شهريا، في حين والدك لا يستطيع أن يصنع ذلك لأنه في جميع الأحوال يبقى موظفا يتقاضى راتبه من الدولة.
والله إني لأعلم رجلا خرج من بلدكم هذه – من مصر – دخله الآن لا يقل عن مليون ريالا يوميا، هنا موجود وذلك لأن الله فتح عليه، اسأليني عن النفقات التي يقدمها عن الخيرات التي يفعلها عن المشاريع التي يقوم بها، أشياء مذهلة، ورغم ذلك هو رجل صالح صوام قوام يصوم كل يوم اثنين وخميس، أخلاقه في القمة، كل شهر لديه عمرة في مكة المكرمة، ورغم ذلك بفضل الله لو نظرت إليه لقلت أنه لا يملك شيئا، يركب أفخم السيارات ولكن من تواضعه كما لو كان لا يملك شيئا.
إذن فكرة السفر للخارج ليست كلها خطأ وليست كلها صواب، ولكن هي عبارة عن محاولة لتحسين الوضع وتحسين المستوى وقد تنجح وقد لا تنجح.
أقول – أختي الكريمة -: أتمنى - وأنت في مصر - والحمد لله - أنت على قدر من الثقافة خاصة دراسة اللغة الإنجليزية – أن تزوري مكتبة كمكتبة جرير أو بعض المكتبات الراقية÷ وأن تبحثي عن كتاب من الكتب التي تعيد إلى الإنسان ثقته بنفسه (كيف تكتسب ثقة نفسك بنفسك)، فهو ضروري جدا، لابد أن تقرئي شيئا؛ لأن هذه النصائح وهذا الكلام يبقى كلاما نظريا ولكن الخطوات العملية المناسبة القراءة في هل هذه الأسرة التي تنحدرين منها هي التي ينبغي أن تظل النموذج الوحيد الذي يقاس عليه النجاح والسعادة والأمن والاستقرار، أم أنه من الممكن أن تكون هناك أسر أخرى أقل دخلا وأقل مستوى ولكنها سعيدة، وأعتقد أن هذا قد يكون قدرك، وعندما تتزوجين بمدرس مثلك سعيد جدا وأخلاقه عالية وفي غاية الاحترام ولكنه يبقى مدرسا أو يبقى مثلا كوكيل النيابة الذي تقدم لك رجل قضاء أو يبقى كرجل محاسب، هؤلاء رائعون، هؤلاء متميزون، وظائفهم عادية ولكن قد تكون صفاتهم راقية جدا، فلماذا نرفض المتوسط ونظن أنه لابد لنا من القمة، والصعود للقمة صعب جدا.
أتمنى أن تقرئي بعض الكتب عن إعادة الثقة بنفسك، وأن تعلمي أن ما أنت فيه إنما هو وساوس من الشيطان؛ لأن عدم التأقلم هذا إنما هو من عمل الشيطان، لأنك تريدين شيئا وأنت على شيء فلديك عدم مقدرة على المواءمة بين ما ينبغي أن يكون وما أنت عليه فعلا، كونك ترفضين المتقدمين لهذه الأسباب أعتقد أن هذا ليس بصحيح، وأنه رفض غير مقبول شرعا؛ لأنك تردين سنة النبي عليه الصلاة والسلام .. نعم لا مانع أن يكون هناك مع الدين والخلق شيء من الوفرة المالية ولكن لا يلزم أن يكون كوالدك.
أتمنى - بارك الله فيك – أن تقرئي شيئا في سير الصالحات، فهناك كتاب اسمه (حياة الصحابيات) وكتاب اسمه (أمهات المؤمنين)، اقرئي شيئا عن أخلاق العظيمات من أمة محمد – عليه الصلاة والسلام – اقرئي شيئا عن تنمية الموارد البشرية، عن تطوير الذات. اقرئي شيئا يجعلك تعتزين بنفسك بصرف النظر عن من أبوك ومن أمك، هذا الذي أريده أن يكون النجاح من داخلك أنت وهذا الذي ينبغي أن تركزي عليه، كما أن جدك استطاع أن يخرج لنا كوالدك -حفظه الله- فلماذا أنت لا تكونين كذلك، فبدل أن تقولي زوجي قولي أنا، أنا.. هذا هو المطلوب منك، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز).
خذي بالأسباب في أن تكوني متقدمة ولكن لا ترفضي أحدا لأنه أقل مستوى من والدك، أهم شيء الخلق والدين، ولا مانع من شيء من الوفرة الاجتماعية على اعتبار أنك عشت هذا المستوى، وهذا لا حرج فيه شرعا؛ لأن الكفاءة في النفس والكفاءة في المستوى أيضا من المقاصد التي حث عليها علماء الإسلام؛ لأن توافرها يوفر نوعا من الاستقرار، ولكن يبقى بعد ذلك أن السعادة هو قدرتي على التكيف مع الواقع بصرف النظر هل أنا غني أم فقير، هل أنا أستاذ جامعة أم أستاذ في الابتدائية أو في روضة من الرياض، هل أنا أستطيع أن أسعد غيري وأن أوزع السعادة على من حولي، إذا لم أرض كالوضع الذي أنت عليه الآن فالسعادة لن تأتي، ولن تتأتى لأنك لم تقبلي بقسمة الله تبارك وتعالى الذي قال: ((والله فضل بعضكم على بعض في الرزق))[النحل:71]، لماذا؟ ((ليتخذ بعضهم بعضا سخريا))[الزخرف:32].
الناس يحتاجون الطبيب والمهندس والمدرس ويحتاجون الشرطي الذي يقف نقطة مرور ويحتاجون الضابط الذي ينظم الأمن، ويحتاجون عامل البلدية الذي ينظف الطرقات وينظف الشوارع، ويحتاجون إلى الحارس الذي يقف على باب العمارة، ويحتاجون إلى الطاهية التي تطهو لهم طعامهم، نحتاج إلى كل الوظائف وإلى كل المهن، وكلها وظائف رائعة لأنها لولاها لما سعدت لنا الحياة.
سيارتك الآن لو أنها تعطلت لأي عطل قولي لي بربك إذا لم يكن هناك ميكانيكي فكيف تسعدين أو تستمتعين بها؟
إذن نحن كلنا لا غنى لبعضنا عن بعض، فارضي بما قسم الله لك تكوني أسعد الناس وتكوني أفضل الناس، وأتمنى – كما ذكرت – أن تقرئي في الكتب التي تعيد الثقة في النفس وفي الآخرين، وأنا واثق أنك ستنجحين وتكونين إنسانة رائعة بنفسك، أنت لست بوالدك ولا بمستواه الاجتماعي وإنما بذاتك أنت.
أسأل الله لك التوفيق والسداد، وأسأل الله لك العون والتأييد، وأسألك أن يخرجك من هذه الحالة النفسية غير المستقرة، وأن يجعلك من سعداء الدنيا والآخرة، وأن يوفقك لإسعاد نفسك وإسعاد زوجك وإسعاد الآخرين، وأن تكرري السعادة التي في بيتكم بالسعادة في بيتك الجديد وأن تكوني أنت سبب السعادة وليس زوجك.
والله ولي التوفيق.