هل الإنسان مسير أم مخير؟

0 448

السؤال

السلام عليكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
فضيلة الشيخ أنا - والحمد لله - مؤمنة يقينا بقضاء الله وقدره، وأن قضاءه سبحانه سبق خلقه، ولا راد لقضائه، وأنه سبحانه ذو العدل المطلق، لا يظلم عنده أحد، ولا يجازى الإنسان إلا بما كسب.

أما سؤالي: إذا كانت أفعالا وقرارات كل إنسان مسطورة في كتاب قبل أن يخلق فما هو مدى حريته في اتخاذ قراراته وأفعاله؟ وهل إيمانه وكفره وصلاحه وفسقه من القضاء؟ وهل جزاؤه - الجنة أو النار - من القضاء؟

أرجو أن لا يغضب سؤالي ربي لأني راضية بما قدره لي ربي - والحمد لله - لكن ليطمئن قلبي.
أسأل الله الرحيم أن يثبت قلوبنا على دينه، وجزاكم الله خيرا (( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ))[الرحمن:60]^.


الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ فايزة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا تواصلك معنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى أن يثبتك على الحق، وأن يشرح صدرك للإيمان، وأن يملأ قلبك باليقين والتقى، وأن يرزقك الرضى عن الله تبارك وتعالى، وأن يرزقك رضاه عنك، إنه جواد كريم.

بخصوص ما ورد برسالتك - أختي الكريمة فايزة – فإنا نعلم أن الله تبارك وتعالى – كما ذكرت – حكم عدل، وأنه سبحانه وتعالى لا يظلم بل ولا يحب الظلم، فقد حرمه جل جلاله، ولا يجازي الإنسان – كما ذكرت – إلا بما كسب، بل إنه يعفو عن كثير – سبحانه جل جلاله – فإذا أساء الإنسان إساءة ما فإنه يجزى عليها مفردة بدون مضاعفة، أما إذا أحسن فإن الله تبارك وتعالى جل جلاله يجعل الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، بل قد يعفو عن الزلات أيضا فهو العفو الغفور جل جلاله.

أما بالنسبة لمسألة الحرية أو ما كتب فإنا ننظر في تصرفات العبد فنرى أنها تنقسم إلى قسمين:
أولا: قسم لا دخل له فيه، وهذا لا يحاسبه الله تبارك وتعالى عليه كمسألة الأمراض، ومسألة الغنى والفقر، ومسألة الموت والحياة، ومسألة الطول والعرض، هناك مسائل يسمونها اضطرارية أو إجبارية، أو أن العبد مسير فيها وليس مخيرا، فكل شيء ليس فيه إرادة للعبد لا يؤاخذه الله تبارك وتعالى عليه، الشيء الذي لا إرادة فيه لا يحاسبه الله تبارك وتعالى عليه رحمة به؛ لأن الله خلق هذه الأشياء وجعل هذه الأشياء تتنزل على العباد لحكمة يعلمها جل جلاله سبحانه، فالإنسان قد يصاب بمرض ويظل يعالج، وهذا المرض قد يستمر لسنوات وهو لا يدري لماذا هذا الأمر حدث، سبق في علم الله تعالى أنه لو كان صحيحا فقد يكثر في الأرض فسادا عظيما، وأن فساده سيضر الناس فيبتلى بهذا المرض ليقعده الله عن الحركة أو عن النشاط الكامل التام، أو يعطل بعض أجزائه رحمة بخلق الله تعالى، لا يعلم مدى ضررهم من هذا الشخص إلا الله سبحانه، وهكذا هلم جرا.

القسم الثاني: وهو الذي خير فيه الإنسان، ومعنى خير فيه أي تركت له حرية الإرادة والاختيار؛ ولذلك - بارك الله فيك – إذا تقدم إليك أحد الأزواج فأنت تختارين الزوج الذي يناسبك، الأطعمة أنت تختارين الطعام الذي تريدين، الألبسة أنت تختارين من الألوان ما تميلين إليه وما تحبين، حتى تفصيل الملابس وطريقة الخياطة وإعدادها، هذه الأمور كلها نحن نفعلها باختيارنا.

كذلك قضية الصلاة، فالله تبارك وتعالى أمرنا بالصلاة، فمنا من يصلي ومنا لا يصلي، قد نسمع الأذان يؤذن ونحن على بعد أمتار فمنا من يتحرك ومنا لا يتحرك قيد شعرة ولا يحرك ساكنا، الزنا حرمه الله تبارك وتعالى، ولكن من الناس من يفعله ومنهم من لا يفعله.

إذن هذه المسائل الاختيارية - بارك الله فيك – هي التي يعرف بها الإنسان، وهي التي ميزت الإنسان عن الحيوان؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ))[الإسراء:70]^ جمهور العلماء على أن الله فضلهم بنعمة العقل، والعقل هو الإدراك والتمييز، والقدرة على تمييز الضار من النافع، والحسن من السيئ، والخير من الشر، هذه هي التي جعلنا الله تبارك وتعالى بها متميزين عن سائر المخلوقات.

هذه الجوانب - أختي الكريمة فايزة – هي التي يحاسبنا الله تبارك وتعالى عليها، أما ما ثبت في علم الله تعالى فأنا أسألك سؤالا: هل أنت اليوم تدرين ماذا سيحدث بعد ساعة، أو ماذا سيحدث لك بعد يوم، أو في أي مكان سوف تكون نهاية الإنسان، هل المكان الفلاني أو كذا؟ أو ماذا سيرزق من الأرزاق غدا؟ هذه الأمور قطعا نحن لا نعلمها؛ ولذلك نحن مطالبون - بارك الله فيك – بأن نستخدم عقلنا في فهم كلام ربنا وتطبيقه في واقع حياتنا، أما هذا الكلام الذي تذكرينه لا دخل له في إرادة الإنسان مطلقا، ولا دخل له في الحرية أبدا؛ ولذلك لا يوجد أحد في الكون كله يعلم ماذا أعد الله له، ما هو المقصود - أختي الكريمة فايزة -؟ أن نستعمل العقل في فهم الشرع حتى نطبق الشرع كما أراد الله تعالى، هذه القضية بها كل شيء ينتهي، أما أن الله كتب عليها الشقاوة أو أن الله كتب عليها السعادة، أو أن الله تعالى جعلني من أهل الجنة، أو من أهل النار، هذه ليست قضيتي أصلا، وإنما أنا مطالب بعمل الصالحات، مطالب بالاستقامة على منهج الله، مطالب بتنفيذ أوامر الله، مطالب بالابتعاد عن الحرام، هذا هو المطلوب مني كعبد، سوى ذلك أنا لا أشغل بالي؛ لأن هذه قضية فوق مستوى العقول تماما، ومن هنا أقول - أختي الكريمة - الله تبارك وتعالى وعد: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ))[الكهف:107]^، (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ))[الكهف:30]^، (( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ))[العصر:1-3]^، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

هذا هو المتاح لنا - أختي الكريمة - وما سوى ذلك هذا كله لا نفكر فيه مطلقا؛ لأننا لن نصل من ورائه إلى أي فائدة، ولن نصل إلى طائل أبدا؛ لأنه شيء فوق مستوى العقل البشري، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)؛ لأن الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم نفس سؤالك هذا، إذا كان الله تبارك وتعالى قد قدر للجنة أهلا وللنار أهلا، وربنا يعلم من هم أهل الجنة ومن هم أهل النار فلماذا العمل إذن؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، أعمال أهل النار معروفة، نجد أن هناك الآن امرأة متبرجة لا تصلي، وقد ترتكب المحرمات، ولها علاقات محرمة، ولا تتقي الله تعالى، وتؤذي عباد الله، هذه الأعمال هل هي أعمال أهل الجنة؟ قطعا لا.

إذن هي أعمال أهل النار، فنقول هذه الأعمال أعمال أهل النار، ولكن لا نحكم عليها بأنها من أهل النار لاحتمال أن يغفر الله لها، وأن يتوب عليها، أما عندما ترين أختا - مثل الأخت فايزة – ملتزمة بالحجاب الشرعي، وحريصة على الصلوات في أوقاتها، تقرأ القرآن الكريم، لا تؤذي أحدا من أهلها أو جيرانها، لا تفعل ما يغضب الله تبارك وتعالى، لا ترتكب كبائر مطلقا، وتجتهد في ترك الصغائر، هذه الصفات أختي صفات من؟ صفات أهل الجنة، نقول - إن شاء الله تعالى – هذه صفات أهل الجنة والأخت فايزة - بإذن الله تعالى – نسأل الله أن يجعلها من أهل الجنة.

هذه هي المعلومة التي ينبغي أن نقف عندها، أكثر من ذلك لا يجوز لنا أن نشق على أنفسنا؛ لأنه والله لو كان هناك من خير لبينه الله تبارك وتعالى لنا إذا كان هناك من خير في معرفة حقيقة ما قدره الله تعالى، ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له، الله تبارك وتعالى يقول: (( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ))[التوبة:105]^، فنحن نعمل بحريتنا الطبيعية التي أعطانا الله إياها وفق القدرات والإمكانات التي أكرمنا بها، وندع النتائج إلى الله، مع الدعاء والإلحاح على الله أن يجعلنا من أهل الجنة.

والخلاصة: أن الإنسان مسير ومخير في نفس الوقت، فهو مسير فيما لا يقدر عليه كالأمراض، والرزق والأجل، ومخير في التكاليف الشرعية كالصلاة والصيام، واجتناب الحرام، وكل ذلك مسطور ومعلوم عند الله، ولا يصح أن نحتج بعلم الله السابق على أن الله جبرنا على فعل المعصية أو الطاعة ليوافق علمه السابق، فلا تأثير لعلمه السابق على أفعالنا الاختيارية، بل لكمال علمه سبحانه، فعلمه سابق ولاحق، ولا يخلو زمان أو مكان من علمه، ولله المثل الأعلى لو أن معلما مع تلاميذه في الصف أحب أن يتنبأ بنتيجة بعض الطلاب قبل امتحانهم، وقدر بأن الطالب الفلاني ناجح، والآخر فاشل، هل يحق للفاشل أن يعترض على معلمه إذا رسب في الامتحان، ويقول بأن تنبؤك هو السبب في رسوبي؟!

طبعا لا يمكن؛ لأن تنبؤ هذا المعلم غير مؤثر في النتيجة أصلا!
وعموما القدر بحر خضم، والبحث فيه محفوف بالحذر والخطر، ولكن حسب المسلم أن يحيط بمعاني إجمالية منه ليطمئن بها قلبه، والأصل في كل ذلك التسليم لله والرضى بقضائه.

أسأل الله أن يوفقنا وإياك إلى كل خير، وأن يثبتنا وإياك على الصراط المستقيم، وأن يشرح صدرنا بالإيمان، وأن ينور حياتنا بالقرآن، إنه جواد كريم.

هذا وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

الاستشارات