السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
أشكركم على هذا الموقع الرائع والمميز، وأرجو أن أجد ما يثلج صدري ويبعد عني كثرة الهواجس والظنون، فأنا بطبيعتي كثير الوساوس والبحث في أمور قد يجد الآخرون أنها من الأمور التي يجب الابتعاد عنها، وأنا بالرغم من اعتقادي ذلك لكن أجد صعوبة بالغة في تجاوز العديد من الأفكار التي تعصف بذهني، وأبدأ في البحث عن إجابات منطقية عنها وخاصة في مجال العقيدة والدين، ودائما ما أجد في القرآن وبعض الكتابات في العقيدة ما يرد على تلك التساؤلات التي تخطر على بالي، إلا أنني قد ابتليت مؤخرا بما يشبه الوسواس القهري حيث يضغط على ذهني بأسئلة لا أجد بصورة مقنعة ما يزيل اللبس عني فيها، وأراني أجد بعض التوتر من ذلك، ومن هذه الأسئلة ما يتعلق بالعدل الإلهي، فكيف يكون الإنسان جميل الوجه غنيا ومتعلما ويحصل على مناصب في الدولة وعنده زوجة جميلة ومتعلمة وغنية، وفي المقابل يوجد إنسان قبيح الوجه فقير غير متعلم؟ وكيف الإنسان الجميل محبوب من الآخرين ويتوددون إليه والقبيح منبوذ وغير محبوب؟ وغيرها من أسئلة تدور حول هذا الجانب.
إنني دائما ما أستغفر الله وأحاول أن أبتعد عن هذه الأفكار، ولكن عدم وجود إجابات مقنعة على هذه التساؤلات يجعلها تزداد وتسبب لي الكثير من الانزعاج، فقد تعودت أن ألقى جوابا لكل التساؤلات في ذهني وبدأت أخاف على نفسي منها.
فأرجو التكرم بمساعدتي في إيجاد أجوبة شافية حول هذه التساؤلات والتخلص من هذه الأفكار.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ سعيد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا تواصلك معنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى أن يصرف عنك كل سوء، وأن يعافيك من كل بلاء، كما نسأله جل وعلا أن يذيقك برد اليقين، وأن يصرف عنك وساوس الشياطين، وأن يجعلك من عباده الصالحين وأوليائه المقربين، وأن يعافيك من هذه الوساوس، وأن يصرف عنك آثارها، كما نشكرك أيضا – أخي الكريم – على شكرك لهذا الموقع، ونحن نشعرك بأننا دائما في خدمتك وفي خدمة إخوانك المسلمين في أي وقت وفي أي موضوع.
وبخصوص ما ورد برسالتك -أخي الكريم- فإن الله تبارك وتعالى جلت حكمته سبحانه قال: (( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ))[النحل:71]، وكل شيء له رزق، حتى الأمراض وحتى المشاكل، وقطعا بلا شك الأموال والأولاد والزوجات والصحة والجمال والطول والعرض، حتى النسب: أنا ابن فلان وأنت ابن فلان، هذه كلها من الأرزاق، والله تبارك وتعالى -كما ورد في الحديث- (قدر المقادير قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)، الله الملك سبحانه وتعالى -يا أخي سعيد- ركب الأمور تركيبا بما يتفق مع منظومة الحياة كاملا، بمعنى أنه لم يراع شخصا على حساب شخص آخر أبدا، لأننا لو أعطينا كل واحد ما يريد (100%) فقط فسيكون هناك من يحرم (100%)، ولذلك الله تبارك وتعالى قد يعطي العبد بعض الأشياء ويحرمه بعض الأشياء، قد يعطيه كل الأشياء لحكمة يعلمها سبحانه، وشخص آخر يبتلى ابتلاء عجيبا أيضا لحكمة يعلمها سبحانه، ولذلك لما خلق الله آدم عليه السلام ومسح على ظهره وأخرج ذريته إلى يوم القيامة، -كل أولاد آدم أخرجهم الله تعالى- ونظر آدم عليه السلام فوجد أن ذريته أمامه وفيها بعض أصحاب العاهات -يعني: واحد أعمى وواحد أعور وواحد أعرج وواحد عنده إعاقة في أي عضو من أعضائه- فقال: ربي! لم خلقت أبنائي هؤلاء هكذا ولم تخلقهم أسوياء كإخوانهم؟ قال: ليتعظ بهم أبناؤك الأصحاء يا آدم.
إذن وجود الإنسان المعاق أو المريض هذه عظة وتذكرة للسليم، ولذلك – أخي الكريم سعيد – كم نسبة المعاقين بين الناس؟ نسبة قليلة بالمقارنة بالأصحاء، كم نسبة المرضى بين الناس؟ نسبة قليلة أيضا بالمقارنة بالأصحاء، فالأصل هو الصحة والأصل هو السلامة، ولكن الله خلق هذه العلل وتلك الابتلاءات لحكمة يعلمها حتى يتعظ أصحاب الصحة ويعلموا أن الله فضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا فيشكروه ويؤدوا حقه عليهم بصورة تتناسب مع ما أعطاهم من النعم التي أكرمهم بها.
وتأمل في قول الله عز وجل: (( أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ))[الزخرف:32].
هذه هي منظومة الحياة كلها كاملة، أما قضية إنسان يكون جميلا وامرأته جميلة ومتعلمة وغنية وهو متعلم وفي أعلى مناصب الدولة، فهذا فيما يبدو لك أخي الكريم، ولكن في الواقع نحن لم نطلع على خفايا أمور الناس، فقد يكون الناس فيما يبدو لنا أنهم سعداء وفيما يبدو لنا أنهم منحوا منحا ما أعطي غيرهم، ولكن في واقع الحال قد يكونون بؤساء، فكم من رجل في قمة الجمال وامرأة في قمة الجمال وليس بينهما انسجام أسري، ليس بينهما تواصل بدني أو جسدي، والمرأة تقول: إن الناس يحسدونني على زوجي وهو يا ليته ربع رجل مثلا، وقد تكون المرأة نفسها فيها عيب أنت لا تعلمه، نحن نحكم بالظاهر أخي سعيد، ولذلك حكمك على الفقير أو الغني أو المنبوذ هذا حكم على الظاهر فقط، قد يكون هذا المنبوذ سعيدا رغم أنه في نظر الناس منبوذ، ولكنه متأقلم مع نفسه راض بقسمة الله تبارك وتعالى له ولا توجد عنده أدنى مشكلة.
ولذلك ترى أحيانا بعض الزبالين وبعض الذين يعملون في الحرف الوضيعة سعداء جدا وليس عندهم أدنى مشكلة، رغم أنك تنظر إليهم بعين الشفقة أو بعين الازدراء والعياذ بالله، رغم أنها كلها أعمال لها دورها في الحياة، إلا أنه يشعر بأنه تأقلم مع نفسه وراض بما قسم الله له.
إذن أنت تنظر لهذا، ولذلك أذكر قصة مما ذكر: أن امرأة تزوجت برجل وكان من الأثرياء، ثم صار بينهما خلاف فطلقت المرأة وتزوجها رجل كان يعمل عاملا عندهم في بيت هذا الرجل -في بيت زوجها الأول-، تزوجها هذا الرجل، فعاشت معه سعادة ما رأتها حتى أنها لتندم على الأيام التي عاشتها في قصر زوجها الأول، فلما أراد أن يراجعها قالت: والله لو أعطيتني قصورك كلها فلن أرجع، لماذا؟ قالت: لأني وجدت سعادتي ومتعتي مع هذا الفقير، وإني لأندم على الأيام التي قضيتها معك.
إذن نحن -أخي الكريم سعيد- نحكم بالظواهر، أما في الواقع فهناك أمور لا يعلمها إلا الله تعالى، فلابد أن نعلم -أخي الكريم سعيد- أن الله كريم وأن الله غني، وأن الله رحمن، وأن الله رحيم، وأن الله عالم، وأنه عليم، وأنه ذو علم، وأنه علام، وأنه لا يقع شيء في الكون أبدا إلا بحكمة وتدبير وقدرة وإرادة عجيبة غريبة جدا، وأن هذا الكون - أخي الكريم – والله لو بحثت أنت وبحثت أنا وبحث الناس من آدم – عليه السلام – إلى آخر واحد على أن يوجدوا ثغرة في صنع الله لم يجدوا، ولكن الجهل وعدم الإحاطة وعدم المعرفة هو الذي يؤدي إلى هذا التناقض الموجود، ولكن الله تبارك وتعالى - صاحب العظمة والجلال – قسم هذا الكون وفق نظام يتفق مع حياة كل الناس، يعني: الإسلام مبني على الرحمة، ولكن لو أن الإنسان سرق واعتدى على غيره فإنا نضطر إلى أن تقطع يد السارق حتى نمنع ضرره عن الآخرين، إذن قطع اليد بالنسبة له ضرر وليس رحمة ويقول: هذا ليس عدلا! ولكن نقول له: هل من العدل أن تروع الآمنين؟! رجل مثلا يتاجر في المخدرات، أو رجل يتجسس على الدولة لصالح أعدائها، هل هؤلاء لو أقمنا عليهم الحد نكون قد ظلمناهم؟! بالنسبة لهم نعم يرون أن هذا ظلم، ولكن الأمة تحتاج إلى تضحية ببعض هؤلاء المخالفين حتى يأمن الكل، وهذا هو نظام مولاك الجليل -سبحانه وتعالى- أو صورة مقربة منه.
ورد عن الحسن البصري رحمه الله -وكان زاهدا ورعا- أنه قال: إننا حين نجلس في حلقة العلم لمدارسة القرآن والسنة نشعر بسعادة ولذة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف.
أتمنى – أخي الفاضل الكريم بارك الله فيك – أن تواصل الاطلاع على المزيد من كتب العقيدة، خاصة مثل كتاب (تلبيس إبليس) لابن الجوزي، وكتاب (إغاثة اللهفان) لابن القيم، هذه الكتب -بارك الله فيك- تتكلم عن مثل هذه المداخل الشيطانية، وإن شاء الله ستساعدك كثيرا في هذا الجانب.
وأتمنى أن تكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وألا تستسلم لهذه الأفكار، وفي نفس الوقت أيضا أن تطلع على هذه الكتب أو غيرها من كتب العقيدة حتى تزول عنك هذه الشبه، ولك أن تعلم – بارك الله فيك – أن هذا الترتيب ترتيب الله ليس فيه ثغرة:
نعيب زماننا والعيب فينا *** وليس العيب في أحد سوانا
الأمر الثاني بارك الله فيك: كم أتمنى أن تطلع على مواقع الإعجاز العلمي في القرآن والإعجاز العلمي في السنة، حتى تتوسع عندك دائرة المعرفة عن عظمة الله وقدرة الله ورحمة الله وجلال الله، ونتمنى أن نلقاك في رسالة أخرى وقد عوفيت من هذا تماما.
هذا وبالله التوفيق.