السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا فتاة حاصلة على ليسانس حقوق، وأتمنى أن أعمل في مجال المحاماة، ولكن هناك مشكلات كثيرة تواجهني في هذا المجال، أهمها أنه لا يمكن الاستمرار فيها إلا بإعطاء الرشوة لموظفي المحكمة - وأعلم جيدا عقوبة الرشوة في الإسلام - بالإضافة إلى المشكلات الأخرى في التعامل، ولكن هذا النوع من المشكلات له حل ولله الحمد، ولكني لم أجد حلا للمشكلات التي تتعلق بالدين.
علما بأني أتمنى أن أكون من المسلمين الذين يستحقون دخول الجنة إن شاء الله، ويمكن لي أن أترك هذه المهنة ابتغاء وجه الله، فكثيرا من زملائي تركوا هذه المهنة لهذا السبب، ولكن إذا ترك مهنة المحاماة كل من يخاف الله وكل شريف فمن سوف يدافع عن المظلوم ويدافع عن الحق، وسوف تصبح هذه المهنة دفاعا عن كل ظالم، وهذا هو ما حدث، ولكني أتمنى أن يجعلني الله سببا في نصرة المظلوم ورد الظالم، فهل أترك هذه المهنة أم أستمر فيها وأخسر ديني ويكون مصيري جهنم؟ وماذا أفعل؟!
وشكرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ دعاء حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى أن يثبك على الحق، وأن يشرح صدرك للإيمان، وأن يجعلك من صالح المؤمنين، وأن يوفقك لاتخاذ القرار الذي يرضيه سبحانه، وأن يجزيك خيرا على نيتك الحسنة الطيبة من رغبتك في الدفاع عن المظلومين وإعطائهم حقوقهم ورد الحقوق إلى أصحابها.
وبخصوص ما ورد برسالتك، فإنه لأمر عظيم حقا أن يتمتع الإنسان بنفس طيبة تريد أن تضحي من أجل الحق وللحق ابتغاء مرضاة الله، ومهنة المحاماة مهنة نبيلة وشريفة وعظيمة ورائعة، وهي جزء من مهنة الأنبياء والمرسلين الذين يقفون دائما مع المظلومين في وجه الظالمين، بل لعلها من رأس أولويات عظماء الخلق وهم الأنبياء والرسل؛ لأنهم وقفوا دائما عبر تاريخهم مع المظلومين في وجه الظالمين.
ولكن المشكلة الكبرى تبقى أن هذه المهنة دخلت عليها أمور أفسدت وعكرت صفوها وأفقدت ذوقها وجمالها وروعتها، ومن هذه الأمور ما ذكرت من إعطاء الرشوة للموظفين في المحكمة وغيرهم؛ لأنه قد يصعب عليك أن تأخذي ملفا لأي قضية من القضايا إلا إذا دفعت مبلغا معينا، بل إن موظف المحكمة قد يبيع لك قضية الطرف الآخر أيضا، وقد يعطيك من الأوراق ما تستطيعين من خلاله أن تلحقي الضرر بالخصم وقد يكون مظلوما، ناهيك عن شهداء الزور وتصرفات بعض أفراد الشرطة الذين قد يغيرون في محاضر التحقيق لمجرد دراهم معدودة أو أشياء بسيطة.
وفوق ذلك أيضا أخلاق الناس، فإن الناس قديما كانوا يقولون الحق ويؤمنون به ويضحون من أجل الصدق ويعملون له، وأما الآن فقد أصيب السواد الأعظم من المسلمين بالسلبية نتيجة للظروف القاهرة التي يعيشونها في معظم بلاد العالم العربي والإسلامي، فأصبحت السلبية عامة إلا من رحم ربي.
فقد يرى الإنسان بعينه من يسرق بيت غيره أو دار جاره أو من يقتل إنسانا علانية عمدا مع سبق الإصرار والترصد، ولكنه لا يدلي بشهادته مخافة أن يلحق به ضرر، فكل هذه الصور السلبية انعكست على مهنة المحاماة وجعلتها مهنة صعبة، ومهنة شاقة وعسيرة، مما ترتب عليه أيضا أن ضاعت حقوق كثيرة من المظلومين من الفقراء والضعفاء الذين لا يستطيعون أن يجاروا ذوي اليسار والغنى من الظالمين والجلادين، وأصبح المحامي في وضع لا يحسد عليه.
ولذلك فإن الطريق إلى تحقيق الحق فيها وعر جدا، وهو في غاية المشقة على الرجال الأشداء فما بالك بفتاة مثلك تبتغي ما عند الله من رضوانه والجنة؟!
وإذا خلت المهنة من هذه المنغصات فهي مهنة عظيمة وشريفة ورائعة أنصح بعدم تركها؛ لأن المظلوم يصل بها إلى حقه وينتقم من الظالم بناء على القضاء العادل، وأما إذا كانت ملوثة بهذه المعاصي وتلك المنكرات فلا يجوز لنا أن نعمل فيها ما دامت ستؤدي إلى الوقوع فيما يغضب الله تعالى؛ لأن الله تبارك وتعالى سيسألني عن نفسي قبل أن يسألني عن غيري، ولذلك قال: ((يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون))[النحل:111]، وقال أيضا: ((كل امرئ بما كسب رهين))[الطور:21]، وقال أيضا: ((كل نفس بما كسبت رهينة))[المدثر:38]، وقال سبحانه: ((وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى))[النجم:39-41]، ولذلك ينبغي علي أن أحرص على نجاة نفسي أولا، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز).
وقد يتمنى الإنسان أن يقف مع كل مظلوم، ولكنه إذا كان ذلك سيوقع بنفسه في حرام واضح بين مقطوع بحرمته فلا يجوز أن يضحي بجنة الله من أجل إنسان قد أستطيع أن أرد إليه حقه أو لا، قال الله تعالى: ((لا يكلف الله نفسا إلا وسعها))[البقرة:286]، وقال: ((لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها))[الطلاق:7].
فما دامت المهنة ملوثة بهذا النظام فالأولى لك أن تتركيها وأن تبحثي عن عمل آخر، واعلمي أن هذه النية الطيبة التي عقدتها في قلبك لن يضيع أجرها عند الله تعالى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، فما دامت هذه نيتك فثقي وتأكدي من أن الله سيعطيك عليها أجرا؛ لأنك أحببت العمل ابتغاء مرضاة الله ولكنك تركته أيضا في نفس الوقت من أجل الله تعالى، فسيثيبك الله تعالى ثوابا عظيما على هذه النية الحسنة، ولكن لا تدخلي هذه المهنة ما دامت بهذه الصفة.
فلا توقعي نفسك في معصية الله، ولا تعرضي نفسك لسخط الله وعقابه، نسأل الله أن يجزل لك المثوبة والعطاء، وأن يجزيك عن المظلومين والضعفاء خير الجزاء، وأن يوفقنا وإياك إلى طاعته ورضاه.
وبالله التوفيق.