السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا شاب عمري 19 عاما، بدأت مشكلتي بعد انتهائي من الثانوية العامة بمجموع كبير يؤهلني لدخول أي كلية أريدها، وقد فرح أهلي كثيرا وأجبروني على دخول كلية لا أرضاها، وهي كلية الطب.
وقد حاولت بشتى الطرق إقناعهم بأني لا أرغب دخولها إلا أن محاولاتي لم تجد نفعا، وانتهى بي المطاف طالبا في كلية الطب محاولا إرضاء أهلي وإسعادهم، وبعد مرور أكثر من شهرين في الكلية أصبحت أكرهها وأكره الدراسة فيها، حيث أعاني من مشاكل مع اللغة، وكلما حاولت أن أدرس تصيبني حالة شديدة من الضيق والاكتئاب والحزن، وصرت حزينا طوال الوقت مكتئبا عاجزا عن التفكير والفرح وحتى النوم، وأصبحت كارها للحياة وأتمنى الموت.
وتتملكني رغبة واحدة وهي ترك الدراسة نهائيا، إلا أني أخاف من ردة فعل أهلي ونظرة الناس لي بعد أن ينتهي بي الأمر إنسانا فاشلا، فساعدوني على حل مشكلتي، علما بأني أعيش بمفردي وحيدا، حيث سافر أهلي للخارج للعمل، فهل وحدتي لها تأثير على مشكلتي؟ وما هو الحل؟!
وشكرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك إسلام ويب، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يفرج كربتك، وأن يقضي حاجتك، وأن يوفقك في دراستك، وأن يصرف عنك كيد شياطين الإنس والجن، وأن يوفقك لإرضاء والديك، وأن يجعلك من العلماء المتميزين وعباد الله الصالحين.
وبخصوص ما ورد برسالتك، فإن الذي تعاني منه هو أمر مشترك بينك وبين كثير من الشباب في هذه المرحلة؛ إذ أن الأسرة تحرص على أن يكون أبناؤها من المتميزين، فإذا حصل الطالب على مجموع كبير في الثانوية العامة فإن مشكلته تبدأ، وذلك بحرص الأسرة على أن يكون ابنها سعيدا في مستقبله، وباعتقادها أنه لن يتيسر له ذلك إلا إذا دخل الطب أو الهندسة، وتحرص الأسرة بكل ما أوتيت من قوة أن تقنع ولدها أن يدخل كلية متميزة، بصرف النظر عن رغبته فيها أو عدم ارتياحه لها.
وهذه سمة غالبة في معظم الأسر التي لم تعط نفسها فرصة للاطلاع على كتب التربية، ومعرفة مدى خطورة هذا الأمر على أبنائهم في حالة عدم رغبتهم في الكليلة التي يرشحونها، والدافع لهذا الأمر ليس كراهية الولد قطعا، فإن الأب والأم هما أعظم الناس حبا لأبنائهم، بل إن الأم تحب ولدها أكثر من نفسها والأب يحب ولده أكثر من نفسه، فالأم قد تتحول إلى عاملة وخادمة، وقد تترك كثيرا من متطلباتها الضرورية حتى توفر لأبنائها الحياة الطيبة المستقرة، وكذلك الأب قد يخرج للعمل صباحا ولا يعود إلا مساء بغية تحصيل أكبر قدر ممكن من الدخل الذي به يستطيع أن يوفر متطلبات أبنائه.
وهذه الرغبة الشديدة لدى الأسرة تصطدم أحيانا بواقع مرير لا يدركون خطره، وهو أن يفرضوا على أبنائهم دراسة معينة أو كلية بعينها، وقد يكون الولد لا يرغب فيها أصلا، إلا أنهم يصرون عليها إصرارا كما حدث معك، وقد جانبوا طريق الصواب ونسوا أن الله جعل لكل إنسان إرادة مستقلة ورغبة خاصة وإمكانات، وأنه مكون من جسد وروح وعاطفة، وأنه لا يمكن أن يتأقلم أبدا مع شيء لا يحبه.
ولذلك يجب أن يكون تدخل الأسرة في تحديد الكلية التي ينبغي أن يدرس فيها الطالب إرشاديا وليس إلزاميا، حيث يبينون محاسن هذه الكلية ويبينون الآثار المترتبة عليها، والمستقبل الذي ينتظر الخريجين من هذه الكلية، وأما أن يجبروا الولد على ضرورة أن يدرس كلية معينة أو منهجا معينا أو بنظام معين؛ فهذا نوع من مجانبة الصواب وعدم التوفيق، وقد يترتب على ذلك إخفاق الطالب إذا لم يكن محبا للدراسة، ولا ينبغي أبدا إذا خالف الولد رغبة والديه أن يكون في نفسهما عليه حرج؛ لأنه من حقه أن يتخير بالطريقة التي تتناسب مع ميوله وقدراته وإمكاناته، ومن حقهم أن يعترضوا عليك إذا أردت أن تدرس في كلية غير شرعية لا فائدة من الدراسة منها أو مستقبلها مجهول، وأما إذا كانت كلية معتبرة فكم من طلبة تركوا الدراسة في الطب ودرسوا في الهندسة فأصبحوا أساتذة في كليات الهندسة وأصبحوا من المخترعين؛ لأنهم دخلوا مجالا يحبونه متخصصين فيه.
ونحن في هذا الموقع لسنا من الذين يحرضون الأبناء أبدا على عقوق الوالدين؛ لأن هذا يتعارض مع الشرع والعرف، ويتعارض مع النصيحة، ولكني أقولها ومن كل قلبي باعتباري أب مجرب: (دع ولدك يتخير التخصص الذي يريده، وقف معه وأيده، ودعه يتحمل مسئولية هذه الرغبة ومسئولية هذه الدراسة)، والأرزاق لا علاقة لها لا بالطب أو الهندسة أو نحو ذلك، فكم من أناس لا يحملون مؤهلات أصلا ورواتبهم في السحاب، وكم من أناس يحملون أكبر المؤهلات الجامعية ولا يملكون قوت يومهم!
فالأرزاق لا علاقة لها بالتخصص، وأتمنى من والديك أن يعطياك الفرصة لكي تحول من هذه الكلية إلى غيرها، وأتمنى أن تنقل رسالتي مباشرة إليهم، وأن تطلب منهم مساعدتك في اتخاذ القرار المناسب، وأناشدهم من باب الأبوة ومن باب التجربة والخبرة التي اكتسبناها بأن هذا القرار قرار خاطئ، وأن إجبارك على الدراسة في كلية لا تحبها إنما هو الفشل بعينه.
وأقول لوالديك: إن ما فعلتموه جزاكم الله عنه خيرا، وأنتم ما أردتم إلا الخير ونحن على يقين من ذلك، ولكنكم أغفلتم رغبة ولدكم واستعداده، وهذا حق أصيل له ولا ينبغي أن نصادر رغبات أبنائنا، وإنما الواجب علينا أن نبين الفوائد والآثار والامتيازات التي تترتب على هذه الدراسة وأن نترك لأبنائنا فرصة الاختيار؛ لأن الأمة في حاجة إلى كل التخصصات، فكما أننا في حاجة إلى الطبيب فنحن في حاجة إلى المهندس والزراعة والتجارة، وأتمنى أن تقفوا مع ولدكم وأن تشجعوه، وأنا واثق أنه سوف يسركم بتميزه في الدراسة التي يرغب فيها، وأما الآن فأنتم تركتموه وحده عرضة للوحدة القاتلة، وهذه في حد ذاتها مشكلة.
وقد يكون تربى معكم في البلد الذي أنتم فيه وكان مغمورا بالعطف والحنان والصحبة الصالحة والبيئة النقية، ثم انتقل إلى بيئة مغايرة تماما، فهو أيضا يواجه تحديات أخرى غير الدراسة، فأعينوه على تحقيق رغباته، وانتظروا منه مشروع عالم كبير في هذا التخصص الذي يحبه، وستسعدون وتسعد الإنسانية والأمة الإسلامية بل وأنتم بسعادته وتميزه بإذن الله تعالى.
ولا تأخذوا كلامي هذا على أنه حسم المسألة، وإنما اسألوا في مجالكم أو في المكان الذي أنتم فيه، واسألوا أيضا علماء الاجتماع وعلماء النفس، شريطة أن تسألوا متخصصين في التربية وفي علم النفس، وستعلمون صدق قولي وستؤيدون كلامي، وستدفعون بابني وابنكم ليكون عالما في المجال الذي يحب، وسيستريح نفسيا وتحل كل هذه المشكلات بالنسبة له، وستسعدون به ونسعد نحن معكم أيضا بهذا الشاب المبارك الذي نسأل الله تعالى أن يجعله من علماء المسلمين الكبار، ونسأله تعالى أن يبارك لكم فيه وأن يبارك له فيكم، وأن يجعلكم أسرة صالحة متميزة.
وبالله التوفيق.