السؤال
هل الإنسان مهما ظلم نفسه وارتكب من معاصي وآثام مع ذلك فهو قادر على إصلاح نفسه؟ أعلم أنه لا شيء يتم إلا بإذن الله، فهل يجوز للمرء بعد أن يتوب إلى الله أن يدعوه عز وجل بأن يقيه شر ما صنع وأن يوفقه في حياته؟ وماذا أفعل تجاه وسواس نفسي حقير يتعلق بالمعاصي التي مضت منذ سنوات؟ مثلا أنا فعلت مقدمات لمعصية معينة وأنا متأكد أنها مقدمات فقط، ثم يأتي الشيطان اللعين ليقول لي: إنها ليست مقدمات بل إنك فعلت الفاحشة!
لا أعلم كيف استسلمت لهذا التفكير، ولكنه الآن سيطر على عقلي، وللعلم هذا كله حدث بمجرد عقد النية على التوبة والبدء في حفظ القرآن، فهل يجوز أن أدعو الله جل في علاه بأن يصرف عني هذا الوسواس وأن يشفيني منه شفاء لا يغادر سقما؟
وهل حقا الاجتهاد في الطاعة طوال الحياة يزيد الجسم قوة وصحة، ويجعل المرء قريبا من ربه يتمتع بنعمه وفضله؟
أفيدوني وجزاكم الله خير الجزاء.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عمرو حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،،
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات إسلام ويب، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأل الله - العلي الأعلى - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لك وأن يتوب عليك، وأن يتقبل توبتك خالصة لوجهه الكريم، وأن يسترنا وإياك بستره الذي لا ينكشف في الدنيا ولا في الآخرة، وأن يثبتنا وإياك على الحق، وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم، إنه جواد كريم.
وبخصوص ما ورد برسالتك – ابني الكريم الفاضل – من أن لديك عدة أسئلة تتعلق بالتوبة، وبداياتها كما ذكرت: هل الإنسان مهما ظلم نفسه وارتكب من المعاصي والآثام ومع ذلك فهو قادر على تغيير نفسه؟ أقول لك نعم، هذا يقين، وهذا كلام الله تبارك وتعالى حيث قال: (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ))[الرعد:11]، فإذا بدأ الإنسان في تغيير نفسه، وتغيير النفس يكون بتغيير سلوكها وطريقة تفكيرها، فإذا كان يتصرف تصرفات سلبية أو مخالفة للشرع فحولها إلى تصرفات طاعة وعبادة، فإن الله تبارك وتعالى يحب ذلك ويقبل من العبد ذلك.
ونحن كما تعلم - ولدي عمرو - ما خلقنا أساسا إلا لطاعة الله تعالى، فلقد حدد الله لنا الوظيفة التي من أجلها خلقنا، حيث قال جل وعلا: (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ))[الذاريات:56]، فأنا وأنت وسائر المخلوقات في العوالم كلها خلقت لعبادة الله الواحد الأحد، والعبادة تدور على محورين كبيرين: المحور الأول:
تنفيذ أوامر الله جل وعلا وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم، والمحور الثاني: اجتناب ما نهى عنه مولانا جل وعلا وما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
والعبد منا عندما يقع في المعاصي يكون قد خالف الله تبارك وتعالى في الشق الديني الأكبر؛ لأن تنفيذ الأوامر قد يكون مقدورا عليها، أما مجاهدة النفس في ترك المحرمات هذه هي القضية الكبرى التي لا يثبت أمامها إلا أهل الإيمان الصادق، والشيطان لعنه الله – كما تعلم – قعد لابن آدم بأطرقه كلها، فعداوة الشيطان للإنسان عداوة أزلية أبدية، فمنذ أن خلق الله أباك آدم – عليه السلام – والشيطان يكيد له ولأبنائه، وكما أقسم بعزة الله في القرآن فقال: (( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين ))[ص:82-83].
فنحن في حرب مستعرة شديدة ما بيننا وبين الشيطان دائما أبدا، والجاهل الجهول هو الذي يغفل أو يتغافل عن كيد الشيطان له، وهذا مع الأسف الشديد حال السواد الأعظم من المسلمين أنهم لا ينتبهون للعدو الأعظم وهو الشيطان، وإنما يفكرون في عداوات بسيطة لو أننا قطعنا عنق الشيطان لانتهت هذه الحروب والمعارك كلها التي نشنها مع الناس؛ لأن هؤلاء الكفار الذين يعادون الإسلام والمسلمين لا يعادونهم أيضا إلا بتحريض من الشيطان لعنه الله، قال تعالى: (( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ))[مريم:83]، هذا كلام الله تعالى الذي يؤكد ذلك.
ولذلك الشيطان إذا ما أراد العبد أن يتوب إلى الله وضع في طريقه ألف عقبة وعقبة، فأنت الآن تتكلم عن معصية فعلت مقدماتها وأنت على يقين من ذلك، يأتيك الشيطان يقول: لا. أنت فعلت الفاحشة الكبرى، لماذا يقول لك هذا الكلام؟ هل يا ترى حتى تتوب توبة صادقة؟ لا، حتى تيأس من رحمة الله تعالى، حتى تقنط من روح الله، حتى تقول أنا من أصحاب الكبائر فكيف أتوب!
ولكن فرضا حتى وإن كانت كبائر، ألم يبين لنا الله تبارك وتعالى أنه يغفر الذنوب جميعا، قال تعالى: (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ))[الزمر:53]، ويقول تبارك وتعالى: (( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم ))[النساء:17].
فإذن هؤلاء الذين أذنبوا هذه الذنوب العظيمة بل إن الرجل الذي قتل مائة نفس، والقتل أعظم من الزنى قطعا، ورغم ذلك عندما صدق في توبته تقبل الله توبته وأدخله الجنة.
فلا تلق بالا - بارك الله فيك – لهذه الوساوس واجتهد في الدعاء على قدر استطاعتك بكل ما أوتيت من قوة، توجه إلى الله بالدعاء واسأله هذه الأسئلة التي بينتها في رسالتك وغيرها، واعلم أن الله يحب الملحين في الدعاء، بل إن النبي أخبرنا عليه الصلاة والسلام أن من لم يسأل الله يغضب عليه، فأكثر من الدعاء والإلحاح على الله ولو في كل نفس دعوة فا علم أن الله سيزداد لك حبا.
ومما لا شك فيه أن الاجتهاد في الطاعة يزيد الجسم قوة وصحة ويجعل المرء قريبا من ربه يتمتع بنعمه وفضله وهذا لا خلاف فيه، فإن هذا مجمع عليه أيضا، ولذلك ورد أن عالما من علماء المسلمين كان قد وصل إلى أكثر من ثمانين عاما وكان يركب يوما سفينة من السفن التي تحمل الركاب من شاطئ إلى شاطئ، فلما قربت السفينة من الشاطئ ولكنها لم تصل إليه بعد قفز قفزة عالية من السفينة إلى الشاطئ -وثبة رياضية عالية التركيز- فلما نزل أهل القارب تعجبوا وقالوا: كيف أنت في هذه السن تفعل ذلك؟ -نحن كشباب لا يمكن أن نفكر في ذلك- فقال: (هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر)، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احفظ الله يحفظك).
فأوصيك بالاجتهاد في طاعة الله، وطاعة الله كما ذكرت تكون بهذين الشقين الكبيرين: تنفيذ أوامر الله وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم خاصة الواجبات، وأوصيك كذلك بالانتهاء عن معصية الله تعالى خاصة الكبائر ومخالفة أوامر الله تعالى ومخالفة أوامر النبي - عليه الصلاة والسلام –، واعلم أن الله تبارك وتعالى سيزيدك ذكاء وعلما وتوفيقا وقبولا وصحة وعافية وأمنا وأمانا واستقرارا، ألم يقل مولانا تعالى: (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ))[الأعراف:96] وألم يقل كذلك: (( واتقوا الله ويعلمكم الله ))[البقرة:282]، فاجتهد يا ولدي وأر الله من نفسك خيرا، واجتنب المعاصي صغيرها وكبيرها، ولا تسلك سبيل المجرمين، وأكثر من الاستعانة بالله من الشيطان الرجيم، وأكثر من الاستغفار، وأكثر من التوبة، وأكثر من الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام واحرص على صلاة الجماعة وقراءة ورد يومي من القرآن، وأبشر بخيري الدنيا والآخرة.
هذا وبالله التوفيق.