السؤال
فقدت أبي منذ عشرة أيام ولا أستطيع الحياة بدونه، لا أعرف ماذا أفعل؟!
أنا ضاقت بي الدنيا، أشعر أنني لن أضحك مرة أخرى، فقد كان أبي وصديقي، وكل شيء لي.
أستغفر الله العظيم، أعلم أنكم ستقولون لي: ادعي له واستغفري كثيرا، أنا أفعل ذلك كثيرا ولكن دون جدوى! أتمنى الموت كثيرا على أمل لقائه.
يا رب أسألك الصبر.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ دينا حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فإنه ليسرنا يا بنيتي أن نرحب بك في إسلام ويب، فأهلا وسهلا ومرحبا بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأل الله العلي الأعلى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يغفر لأبيك وأن يتوب عليه، وأن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يتجاوز عن سيئاته، وأن يجعله من أهل الجنة.
كما نسأله تبارك وتعالى أن يربط على قلبك، وأن يثبتك على الحق، وأن يحفظك من الانهيار أو الضعف، إنه جواد كريم.
وبخصوص ما ورد برسالتك – ابنتي الكريمة – فإني أقول لك: أحسن الله عزاءك في أبيك، وغفر الله له وأدخله الجنة، وعظم الله أجرك، ومما لا يخفى عليك أن الله تبارك وتعالى قال: ((كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام))[الرحمن:26-27]، وقال أيضا: ((كل شيء هالك إلا وجهه))[القصص:88]، وقال لنبيه وحبيبه محمد عليه الصلاة والسلام: ((إنك ميت وإنهم ميتون))[الزمر:30].
لقد شاء الله تبارك وتعالى أن يجعل كل شيء له بداية لابد له من نهاية، فأعمار الناس وآجالهم محدودة ببدايات ونهايات، كذلك الزرع في الأرض كما تعلمين لو رأيته وهو ينبت على ورقة أو ورقتين، ثم لا يلبث أن يتحول إلى حطام وتنتهي دورته في الحياة، كذلك الكائنات التي نعيش معها ومن حولنا، هذه العمارات الشاهقة التي تبنى قد تظل لمائة عام ثم يأتي عليها يوم تتعرض فيه للانهيار والزوال، السيارات التي نشتريها جديدة لم تستعمل تمر عليها فترات ثم يأتي عليها يوم فتصبح لا تصلح للاستعمال.
العام الدراسي يبدأ بيوم وينتهي أيضا في يوم محدد، النهار والليل، فإن النهار يبدأ مع أذان الفجر وينتهي مع غروبه، فكل يوم نرى عملية الموت والحياة بصفة منتظمة ومتكررة ومنتظمة.
وتلك إرادة الله تبارك وتعالى الذي كتب الفناء على كل مخلوق، وخص نفسه جل جلاله بالبقاء.
هذه حقيقة أختي الكريمة أعتقد أنها لا تخفى عليك، والذي حدث أن الحياة أشبه ما تكون بقطار يركبه الناس جميعا، فكل إنسان جاءت محطته فإنه ينزل من القطار ولكن القطار يمشي.
فمنذ أن خلق الله آدم – عليه السلام – والموت يعمل في بني آدم، حيث مات آدم عليه السلام وماتت حواء، ومات أبناؤهما، ومات من بعدهم الملايين من الخلق، وكل يوم يموت عزيز على أسرة ومحبب لديها، ولكنه يذهب فلا يعود وقطعا لن يعود إلا يوم القيامة.
إذن هذه الحقيقة تجعلنا نقف أمام الموت وقفة معتدلة منصفة، بأنه هو سنة الله الماضية، وأن عدم الرضا به يترتب عليه اعتراض على أقدار الله تبارك وتعالى وعدم رضا بما قدره، وإنما كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإن لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
فأنا معك يقينا بأن الإنسان عندما يفقد عزيزا عليه فإنه يشعر فعلا بتغير واضح في حياته، خاصة إذا كان الشخص الذي توفي محبوب ومقرب لدى من يتعامل معه.
فأنت معذورة في أن والدك كان والدا وكان صديقا وكان كل شيء في حياتك، وبذلك فعلا ستشعرين بهذا الألم لفترة ليست حقيقة بالقليلة لأنه لا يعقل أن أظل مع أبي قرابة العشرين عاما وأنساه، فأنت الآن ثلاثة وعشرون عاما وأنت تعيشين في كنفه فليس من السهل أن تنسينه في أيام معدودات.
ولذلك فكرة العشرة أيام التي مرت هذه ليست مقياسا أبدا، بل لعلك تظلين عشرة أسابيع، ولعله قد يصل بك الحال إلى عشرة أشهر وأنت مازلت تشعرين فعلا بفقد أبيك وبعدم وجوده في حياتك، وتتألمين كثيرا لفقده.
أنت تقولين أنك تعرفين أننا سنطلب منك أن تدعي له وأن تستغفري له، ولكنك تقولين بأنك فعلت ذلك، لكن الأمر لم يأت بنتيجة، نقول لك ما هي النتيجة التي تريدينها؟
إن ما تفعلينه من الدعاء لأبيك والاستغفار له يرفع درجاته في الجنة، وأعتقد أنك تحبين ذلك، ولذلك مسألة الحزن لن تستطيعي أبدا أن تتخلصي منها بسهولة؛ لأن والدك – رحمه الله تعالى – لم يكن أبا عاديا، ولكن كما ذكرت كان أبا وكان صديقا وكان كل شيء بالنسبة لك، هل يعقل أتنسينه بهذه السهولة، حتى وإن أكثرت من الدعاء له والاستغفار له، فإنه لا يمكن نسيانه بسهولة – ابنتي الكريمة دينا -.
ثلاثة وعشرون عاما وأنت تعيشين في كنفه، هل تتصوري أن هذه كلها تمحى بجرة قلم لمجرد أنك دعوت دعوة واستغفرت استغفارا، هذا ليس منطقيا ولا مقبولا.
نحن ندعو لآبائنا، نستغفر الله لهم حتى يكونوا في درجات عالية ومنازل رفيعة في جنات الله الواسعة. بل إن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا بقوله: (يقال لرجل من أهل الجنة: ارق إلى الدرجة التي تلي درجتك، فيقول: ومن أين لي يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول: باستغفار ولدك لك).
فإذن أنت بدعائك له تنفعينه نفعا عظيما جدا، باستغفارك له تنفعينه نفعا عظيما جدا؛ لأن كل دعوة يحط الله بها من الخطايا ما الله بها عليم، كل استغفار يغفر الله له به من الذنوب والآثام، بل إن بعض الآباء قد يدخلون إلى القبور وهم من أهل النار ولكن ببركة دعاء أبنائهم واستغفارهم لهم، والأعمال الطيبة التي يقدمونها لهم يتغير حاله، فيخرج من النار إلى الجنة، ويظل يترقى في الجنة حتى يأتي يوم وقد أصبح من أهل الفردوس الأعلى.
فإذن أنت ما تفعلينه هو أهم شيء بالنسبة لأبيك، أما مسألة عدم النسيان أو التأثر بالغياب فهي مسألة كما ذكرت إن شاء الله تعالى لعلها لن تطول طويلا، ولكنها لن تكون قصيرة، وذلك نظرا لطول العشرة ولحسن المعاملة التي أكرمك الله تعالى بها من خلال أبيك، فما عليك بارك الله فيك فعلا إذا كنت تحبينه يقينيا إلا أن تكثري من الدعاء له والاستغفار، ومسألة النسيان كما ذكرت مسألة وقت، وعما قريب سوف تصابين بها كما قال الشاعر:
"وما سمي الإنسان إنسانا إلا لنسيانه) فسمي الإنسان إنسانا لأنه ينسى، والله تبارك وتعالى قال عن نفسه: ((وما كان ربك نسيا))[مريم:64]، فمع الأيام سوف تخف هذه الحدة، وسوف تقل هذه العاطفة، وتضعف وتتلاشى، حتى إنه ليأتي عليك يوم لا تذكرين فيه يوم أنه كان لك أبا إلا قليلا.
أسأل الله تعالى أن يربط على قلبك، وأن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يغفر لأبيك وأن يتوب عليه، وأن يسكنه الفردوس الأعلى، إنه جواد كريم.
هذا وبالله التوفيق.