السؤال
أرجو من سيادتكم تفسير آيات 84 - إلى 90 مع ذكر قصة ذي القرنين؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقصة ذي القرنين قد قص الله تعالى علينا منها ذكرا وعبرا في سورة الكهف في الآيات { 83-98 } وقد أفاض المفسرون والمؤرخون في تفاصيل ذلك ونختار لك منه ما ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره فقد اقتصر على النافع المفيد حيث يقول:
{ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } كان أهل الكتاب أو المشركون، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة ذي القرنين، فأمره الله أن يقول: { سأتلو عليكم منه ذكرا } فيه نبأ مفيد، وخطاب عجيب.
أي: سأتلوا عليكم من أحواله، ما يتذكر فيه، ويكون عبرة، وأما ما سوى ذلك من أحواله، فلم يتله عليهم.
{ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سببا * حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا * قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا } .
{ إنا مكنا له في الأرض } أي: ملكه الله تعالى، ومكنه من النفوذ في أقطار الأرض، وانقيادهم له. { وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا } أي: أعطاه الله من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه، ما به يستعين على قهر البلدان، وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله إياها، أي: استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل.
وهذه الأسباب التي أعطاه الله إياها، لم يخبرنا الله ولا رسوله بها، ولم تتناقلها الأخبار على وجه يفيد العلم، فلهذا، لا يسعنا غير السكوت عنها، وعدم الالتفات لما يذكره النقلة للإسرائيليات ونحوها، ولكننا نعلم بالجملة أنها أسباب قوية كثيرة، داخلية وخارجية، بها صار له جند عظيم، ذو عدد وعدد ونظام، وبه تمكن من قهر الأعداء، ومن تسهيل الوصول إلى مشارق الأرض ومغاربها، وأنحائها، فأعطاه الله، ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين، كأنها تغرب في عين حمئة، أي: سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع، ووجد عندها، أي: عند مغربها قوما. { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا } أي: إما أن تعذبهم بقتل، أو ضرب، أو أسر ونحوه، وإما أن تحسن إليهم، فخير بين الأمرين، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق، أو فيهم شيء من ذلك، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق، لم يرخص في تعذيبهم، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء، لتوفيق الله له لذلك، فقال: سأجعلهم قسمين: { أما من ظلم } بالكفر { فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا } أي: تحصل له العقوبتان، عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة.
{ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى } أي: فله الجنة والحالة الحسنة عند الله جزاء يوم القيامة، { وسنقول له من أمرنا يسرا } أي: وسنحسن إليه، ونلطف له بالقول، ونيسر له المعاملة، وهذا يدل على كونه من الملوك الصالحين الأولياء، العادلين العالمين، حيث وافق مرضاة الله في معاملة كل أحد، بما يليق بحاله.
{ ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا * ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا } .
أي لما وصل إلى مغرب الشمس كر راجعا، قاصدا مطلعها، متبعا للأسباب، التي أعطاه الله، فوصل إلى مطلع الشمس فـ { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا } أي: وجدها تطلع على أناس ليس لهم ستر من الشمس، إما لعدم استعدادهم في المساكن، وذلك لزيادة همجيتهم وتوحشهم، وعدم تمدنهم، وإما لكون الشمس دائمة عندهم، لا تغرب عنهم غروبا يذكر، كما يوجد ذلك في شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصل إلى موضع انقطع عنه علم أهل الأرض، فضلا عن وصولهم إليه إياه بأبدانهم، ومع هذا، فكل هذا بتقدير الله له، وعلمه به ولهذا قال { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا } أي: أحطنا بما عنده من الخير والأسباب العظيمة وعلمنا معه، حيثما توجه وسار.
{ ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين } قال المفسرون: ذهب متوجها من المشرق، قاصدا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، وجد من دون السدين قوما، لا يكادون يفقهون قولا لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم، وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا: { إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك. { فهل نجعل لك خرجا } أي جعلا { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم: { ما مكني فيه ربي خير } أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تعينوني بقوة منكم بأيديكم { أجعل بينكم وبينهم ردما } أي: مانعا من عبورهم عليكم.
{ آتوني زبر الحديد } أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك.
{ حتى إذا ساوى بين الصدفين } أي: الجبلين اللذين بني بينهما السد { قال انفخوا } النار أي: أوقدوها إيقادا عظيما، واستعملوا لها المنافيخ لتشتد، فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد { قال آتوني أفرغ عليه قطرا } أي: نحاسا مذابا، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاما هائلا وامتنع به من وراءه من الناس، من ضرر يأجوج ومأجوج.
{ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا } أي: فما لهم استطاعة، ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه، ولا على نقبه لإحكامه وقوته.
{ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا } .
فلما فعل هذا الفعل الجميل والأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها وقال: { هذا رحمة من ربي } أي: من فضله وإحسانه علي، وهذه حال الخلفاء الصالحين، إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة، ازداد شكرهم وإقرارهم، واعترافهم بنعمة الله. قال سليمان عليه السلام، لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، قال: { هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر } بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض فإن النعم الكبار، تزيدهم أشرا وبطرا.
كما قال قارون -لما آتاه الله من الكنوز، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة- قال: { إنما أوتيته على علم عندي }
وقوله: { فإذا جاء وعد ربي } أي: لخروج يأجوج ومأجوج { جعله } أي: ذلك السد المحكم المتقن { دكاء } أي: دكه فانهدم، واستوى هو والأرض { وكان وعد ربي حقا }.
وقد ذكرنا طرفا من أخبار ذي القرنين في فتاوى سابقة منها الفتاوى التالية أرقامها : 7448، 71738، 12402 .
والله أعلم.