خلاصة الفتوى:
إن المدن التي أنشأها الكفار ومصروها، ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس، أما ما كان فيها من قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه؟ فيه قولان لأهل العلم ورجح بعض المحققين أن الأمر في ذلك يرجع لمصلحة المسلمين، فينظر الإمام فيما إذا كانت إزالتها أصلح أزالها وإن كان إبقاؤها هو الأصلح أبقاها، وعلى هذا يحمل صنيع السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى، ثم إنه لا مقارنة بين الإسلام وغيره فإن بناء المساجد وعبادة الله فيها ونشر دين العدل والتوحيد من إقامة الحق في الأرض، الذي هو هدف رسالة الإسلام، وهدم المساجد أو تحويلها إلى كنائس من إقامة الباطل مكان الحق وهو ظلم ونشر للكفر الذي يجب إبطاله، ومنع إنشاء كل وسيلة تعمل على نشره، هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن مما يجدر التنبيه عليه أولا هو أنه يجب على المسلم الحذر من مجادلة أهل الباطل ما لم يكن قادرا على دحض حججهم وشبهاتهم بالأدلة والبراهين، كما يجب أن يكون المسلم نفسه على يقين من أن الإسلام هو دين الحق وأن ما سواه باطل، ولك أن تراجع في ذلك الفتوى رقم: 54711.
أما عن الإجابة عن السؤال فإن المدن التي أنشأها الكفار ومصروها، ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس، وأما ما كان فيها من قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه؟ فيه قولان لأهل العلم..
قال ابن القيم: وفصل الخطاب أن يقال: إن الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين، فإن كان أخذها منهم أو إزالتها هو المصلحة لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقلة أهل الذمة، فله أخذها أو إزالتها بحسب المصلحة، وإن كان تركها أصلح لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها تركها. انتهى.
وعلى هذا يحمل ما فعل السلطان محمد الفاتح رحمه الله تعالى حينما فتح القسطنطينية عنوة وحول كبرى كنائسها إلى مسجد.
أما التساؤل عن اعتراض المسلمين على تحويل المساجد إلى كنائس في الأندلس؛ فجوابه أنه لا مقارنة بين الإسلام وغيره، فإن بناء المساجد وعبادة الله فيها ونشر دين العدل والتوحيد من إقامة الحق في الأرض الذي هو هدف رسالة الإسلام، وهدم المساجد وتحويلها إلى كنائس ظلم ونشر للكفر الذي يجب إبطاله ومنع إنشاء كل وسيلة تعمل على نشره، هذا ما يجب على كل مسلم أن يعتقده، ويستغرب أن يكون هذا التساؤل صادرا من مسلم، فإن كان صادرا من شخص غير مسلم فليس أمرا غريبا، ومن أراد معرفة عدالة الإسلام فيما يتعلق بهذا الموضوع فليطلع على كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (أحكام أهل الذمة)، حيث قال رحمه الله: البلاد التي تفرق فيها أهل الذمة ثلاثة أقسام:
أحدها: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام.
الثاني: بلاد أنشئت قبل الإسلام، فافتتحها المسلمون عنوة وملكوا أرضها وساكنيها.
الثالث: بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحا...
فأما القسم الأول: فهو مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد والقاهرة... وغيرها من الأمصار التي مصرها المسلمون، فهذه البلاد صافية للإمام إن أراد الإمام أن يقر أهل الذمة فيها ببذل الجزية جاز، فلو أقرهم الإمام على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمرا أو خنزيرا أ وناقوسا لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسدا، وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع.. فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصرها المسلمون؟ قيل: هي على نوعين: أحدهما: أن تحدث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر، فهذه تزال اتفاقا. الثاني: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض ثم يمصر المسلمون حولها المصر فهذه لا تزال.
وأما القسم الثاني: وهو الأرض التي أنشأها المشركون ومصروها، ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا بالسيف، فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس. وأما ما كان فيها من قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره: أحدهما: يجب إزالته وتحرم تبقيته. والثاني: يجوز بناؤها -أي بناء أهل الكتاب لها لا المسلمون- لقول ابن عباس رضي الله عنهما: أيما مصر مصرته العجم، ففتحه الله على العرب فنزلوه، فإن للعجم ما في عهدهم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر عنوة وأقرهم على معابدهم فيها ولم يهدمها، ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلو يهدموا شيئا من الكنائس التي بها، ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة، ومعلوم قطعا أنها ما أحدثت، بل كانت موجودة قبل الفتح، وفصل الخطاب أن يقال: إن الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين، فإن كان أخذها منهم أو إزالتها هو المصلحة لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقلة أهل الذمة، فله أخذها أو إزالتها بحسب المصلحة، وإن كان تركها أصلح لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها تركها، وهذا الترك تمكين لهم من الانتفاع بها لا تمليك لهم رقابها، فإنها قد صارت ملكا للمسلمين فكيف يجوز أن يجعلها ملكا للكفار، وإنما هو امتناع بحسب المصلحة فللإمام انتزاعها متى رأى المصلحة في ذلك.
فبهذا التفصيل تجتمع الأدلة، وهو اختيار شيخنا وعليه يدل فعل الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أئمة الهدى وعمر بن عبد العزيز هدم منها ما رأى المصلحة في هدمه وأقر ما رأى المصلحة في إقراره، وقد أفتى الإمام أحمد المتوكل بهدم كنائس السواد، وهي أرض العنوة.
وأما القسم الثالث وهو ما فتح صلحا وهذا نوعان: أحدهما: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها أو يصالحهم على مال يبذلونه وهي الهدنة، فلا يمنعون من إحداث ما يختارونه فيها، لأن الدار لهم كما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران ولم يشترط عليهم ألا يحدثوا كنيسة ولا ديرا.. النوع الثاني: أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا، فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من تبقية وإحداث وعمارة، لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم، والواجب عند القدرة أن يصالحوا على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه، ويشترط عليهم الشروط المكتوبة في كتاب عبد الرحمن بن غنم ألا يحدثوا بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية، فلو وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه، لأنها صارت كالشرع فيحمل مطلق صلح الأئمة بعده عليها. انتهى بتصرف يسير.
والله أعلم.