السؤال
استكمالا للمداخلة رقم: 6045.مداخلة أخرى بنفس الموضوع فيما يتعلق بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: الولد للفراش. فهذا القول لا شك أنه صحيح، ولكن في زمنه. بمعنى في ذلك الوقت فلو أن رجلا شك في سلوك زوجته ووجدها مثلا في بيت شخص آخر جالسة تتسامر، لا أقول تفعل الفاحشة مع ذلك الرجل هناك، فهذا الرجل سوف يأخذ من ذلك الموقف برهانا على أن زوجته تخونه وتحب شخصا آخر وقد تكون فعلت معه الفاحشة وقد يكون أحد أبنائه من جراء تلك الفاحشة ولكن أي واحد من أبنائه وربما أكثر من واحد... فعندما تعرض مثل هذه المشكلة على الرسول الكريم، بماذا يمكن أن يرد غير الولد للفراش. فهذا هو الرد المنطقي الوحيد في ذلك العصر حيث إن مثل تلك المرأة إن أرادت أن تخون زوجها يمكن أن تقتنص لها فرصة كل أسبوع أو أكثر أو أقل، بينما هي مع زوجها كل يوم، وبالتالي فاحتمال أن يكون هذا الابن المشكوك فيه من صلب الزوج أكبر بكثير من أن يكون من العشيق. وعليه فالأولى أن ينسب للزوج صاحب الفراش. لم يكن بإمكان الرسول الكريم أن يقول ليذهب الزوج والزوجة والأبناء إلى مختبر لعمل فحص دم أو فحص دي ان ايه حتى ولو كان يعلم بأن مثل هذه الأمور سوف تكون متاحة في المستقبل. لذلك كان قوله: الولد للفراش. هو الإجابة الأكثر منطقية والأكثر عدلا في ذلك الوقت. ولكن علينا أن نستوعب نحن بأن هذا القول وغيره من بعض الأحاديث كانت محدودة بالفترة الزمنية التي قيلت فيها ولا يوجد "والله اعلم" ما يوجب الأخذ بها مع تغير الزمن وأدوات التكنلوجيا الحديثة. فلو حصل مثل الموقف الذي أوردناه سابقا مع أي شخص في هذه الأيام وعلم بأن زوجته على علاقة غرام قد تكون جنسية مع غيره وساوره الشك في نسب أبنائه هل هم منه أم من غيره؟ لا يمكن أن يرضى بقول: الولد للفراش.فسوف يذهب إلى المحكمة ويطلب تحليل دم و دي ان ايه وغيرها للتأكد من أن أبناءه هم فعلا أبناؤه. وإن وجد أن بعضهم ليس منه وأقرت الزوجة بذلك بعد البرهان العلمي واعترفت بالفاعل واعترف الفاعل بعد ظهور الحجة متمثلة بنتيجة التحليل، فهل يرضى الزوج بأن يبقى مثل هذا الابن منسوبا إليه؟ بل هل يجوز شرعا أن يبقى منسوبا إليه ويرثه ويكون أخا لبناته و..
مما سبق سيدي أرى أنه يقع عليكم واجب كبير لإعادة دراسة وتحليل الأحاديث الشريفة بنظرة أشمل وأوسع مما هو عليه الحال الآن وربما تقسيمها إلى أحاديث آنية وأحاديث قطعية، نحن نعلم بأنه لا ينطق عن الهوى. ولكن ذلك في الأمور الدينية وليست الدنيوية، وقد أخبر الرسول بذلك حيث قال: أنتم أدرى بأمور دنياكم – فيما يتعلق بتلقيح النخيل - سيدي؛ آسف على الإطالة وأرجو أن يتسع صدركم لما كتبت وتصحح ما فيه أخطأت؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاستفساراتك – أيها السائل – في هذا السؤال تتمثل في ما لو ثبت لدى الزوج أن زوجته على علاقة برجل آخر, وغلب على ظنه أن بعض ولده ليس منه, بل من غيره, فكيف مع هذا نلزمه بقبول هذا الولد ولديه وسيلة للتثبت بإجراء تحليل الحمض النووي،
فنقول لك إن الشرع قد جعل المخرج لمثل هذا الرجل قبل اكتشاف تحليل الحمض النووي بمئات السنين وذلك باللعان, فإذا تحقق من زنا المرأة أو غلب على ظنه فجورها وزناها بقرائن قوية، وأن الولد المنسوب إليه ليس منه، فله أن يلاعنها, قال ابن العربي: وظاهر القرآن يكفي لإيجاب اللعان بمجرد القذف من غير رؤية، فلتعولوا عليه، لا سيما وفي الحديث الصحيح: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فاذهب فأت بها) ولم يكلفه ذكر الرؤية. انتهى.
ولا شك أن هذه الطريقة – اللعان – أفضل وأحكم وأستر من إجراء التحاليل لأن فائدة اللعان: أن يفترق الزوجان، وينسب الولد إلى أمه، وقد سترت المرأة، فلم يعرف إن كانت هي الكاذبة أو هو الكاذب، ولم يعرف إن كان الولد ابنه حقيقة أو لم يكن ابنه. وفي هذا من المصلحة ما فيه.
وقد ذهب جمع من العلماء المعاصرين إلى أن الزوج إذا طلب الاحتكام إلى البصمة الوراثية لم يستجب له، لأنه يفوت على المرأة ما يوفره لها اللعان من الستر عليها وعلى ولدها، وهذا الستر مقصود للشارع لما فيه من مصلحتها ومصلحة ولدها.
ومن العلماء المعاصرين من أجاز إجراء هذا التحليل قبل اللعان؛ لاحتمال أن تخرج النتائج مؤكدة أن هذا الولد من الزوج وليس من شخص آخر، لأن الملاعنة توجب الفرقة ونفي الولد, وقيد ذلك بضوابط سبق بيانها في الفتوى رقم: 7424.
وقد قرر مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي عدم جواز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، فلا يجوز تقديمها على اللعان. كما لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعا، ويجب على الجهات المختصة منعه وفرض العقوبات الزاجرة، لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونا لأنسابهم.
وقد اختلف العلماء فيما إذا طلبت المرأة المقذوفة: الاحتكام إلى البصمة الوراثية، هل تجاب إلى طلبها أو لا؟
فأكثر العلماء قالوا: لا يجاب طلبها، ويكتفى باللعان؛ لأنه هو الذي شرعه الله لعلاج مثل هذه الحالة، فيوقف عنده، ويقتصر عليه، ولا نتعداه.
وذهب فريق آخر إلى أنه يستجاب للمرأة في هذا الطلب، على أساس أنها لا تفعل ذلك إلا إذا كانت مستيقنة من براءتها، وتطلب اللجوء إلى وسيلة علمية مقطوع بها، تدفع التهمة بها عنها، وتحفظ بها حقها، ولا تعتدي على حق إنسان آخر، فهي تطلب بالاحتكام إلى البصمة إثبات أمور ثلاثة في غاية الأهمية شرعا:
أولهما: براءة نفسها من التهمة المنسوبة إليها، وهي جازمة بأنها تعلم أنها بريئة .
وثانيهما: إثبات نسب ولدها من أبيه، وهذا حق للولد، والشارع يتشوف إلى إثبات الأنساب ما أمكن.
الثالث: إراحة نفس الزوج، وإزاحة الشك من قلبه، بعد أن يثبت له بالدليل العلمي القطعي: أن الولد الذي اتهمها بنفيه منه هو ابنه حقا. وبذلك يحل اليقين في نفسه محل الشك، والطمأنينة مكان الريبة.
وبهذا يستفيد الأطراف الثلاثة بهذا الإجراء: الزوجة والزوج والولد.
وأمر كهذا يحقق هذه المصالح كلها، وليس فيه ضرر لأحد، ولا مصادمة لنص: لا ترفضه الشريعة، بل هو يتفق مع مقاصدها.
أما استفسارك بخصوص حديث: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فقد سبق الحديث عنه في الفتويين: 61047, 57742. و للفائدة تراجع الفتوى رقم: 7424, والفتوى رقم: 65845.
والله أعلم.