السؤال
إخواني الأفاضل, بارك الله فيكم وجزاكم خيرا على المجهود الطيب المبذول منكم, أعانكم الله..
صدق الله العظيم الذي لا أصدق من كلامه حين قال: ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)) أخبرني أحدهم أن الرسول الكريم ينطق عن الهوى (أستغفر الله), وحجته أنه صلى الله عليه وسلم في حديثه أنه اشترى كذا وكذا من فلان أو تناول كذا وكذا من طعام, هو ليس وحيا وإنما هوى كسائر بني البشر..
سؤالي بارك الله فيكم, هل عامة حديث رسول الله بغير وحي هو هوى؟
وإذا لم يكن هوى فماذا نقول عنه وما السبيل لإقامة الحجة على مثل هذا التفكير؟
جزاكم الله كل الخير, وجعله في موازين حسناتكم..
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأما قوله تعالى: وما ينطق عن الهوى {النجم:3} فمعناه كما قال ابن عباس: لم يتكلم بالقرآن بهوى نفسه اهـ.
وقال الطبري: يقول تعالى ذكره وما ينطق محمد بهذا القرآن عن هواه إن هو إلا وحي يوحى، يقول: ما هذا القرآن إلا وحي من الله يوحيه إليه اهـ.
وقال البغوي: يريد لا يتكلم بالباطل؛ وذلك أنهم قالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يقول القرآن من تلقاء نفسه اهـ.
وقال البيضاوي: وما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى اهـ.
فليس معنى الآية أن كل كلام ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء يكون وحيا من عند الله، وإنما معناها أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ في ما يبلغه عن الله، بخلاف غيره من الكلام الذي يحتمل الاجتهاد، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون نخلهم، فقال: لو لم تفعلوا لصلح. فخرج شيصا، فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا؟ قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم. رواه مسلم. وفي رواية لأحمد وابن ماجه: إن كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم فإلي. وفي رواية لأحمد: إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإلي.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه. رواه البزار وابن حبان في صحيحه. وقال الهيثمي : فيه أحمد بن منصور الرمادي، وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ.
وهذا لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في غير تبليغ القرآن بالباطل أو العبث أو بشهوة النفس، وإنما معناه أنه قد يكون باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، قد يقره الله عليه وقد لا يقره. ولذلك قال النسفي في معنى الآية السابقة: وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه، إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه. ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي لا نطقا عن الهوى. اهـ.
والخلاق مشهور بين أهل العلم في مسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في ما لم ينزل عليه فيه وحي، وقد ذهب الجمهور إلى أنه صلى الله عليه وسلم يجوز له أن يجتهد في الأحكام الشرعية والأمور الدينية. وإذا اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في حكم فإن كان صوابا أقر عليه، وإن كان خطأ لم يقر عليه ونزل الوحي مبينا ذلك. ومن الأمثلة على هذا: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر وأخذه الفداء منهم، واجتهاده صلى الله عليه وسلم في إذنه للمنافقين في التخلف عن عزوة تبوك.
فالحاصل أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها، فإذا أقر على اجتهاده فالواجب اتباعه ولا يجوز العدول عنه بحال، وعلى هذا فكل ما ثبت مما ورد عنه صلى الله عليه وسلم فهو حق لا مرية فيه، وهو منزل من عند الله. وقد سبق بيان أقسام اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الفتوى رقم: 3217.
فتصديق النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه وطاعة أمره فرض واجب على كل مسلم، في كل حال وشأن من شئونه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لا يقر على ما يخالف مراد الله تعالى، ولذلك يمكن الإطلاق أن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم حق، كما روى عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق. رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني.
وعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا ! قال: إني لا أقول إلا حقا. رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.
وقد سبقت عدة فتاوى في ضرورة العمل بالسنة والرد على منكريها، منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 38419، 35490، 34537، 31742، 56789، 25570، 7097، 99360.
والله أعلم.