الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأموال الوقف إن شرط الواقف أن تصرف في جهة بر محددة وبقدر معين
ونحو ذلك من الشروط، وكان شرطه جائزا ممكنا عمل بشرطه؛ لأنه إنما رضي بخروج ماله عن ملكه بهذا الشرط، فيجب التزام شرطه لحديث: المسلمون على شروطهم. رواه أحمد.
قال الخرشي في شرح خليل: قوله واتبع شرطه أي بلفظه إن جاز أي: وأمكن فإن لم يمكن إتباع لفظه كشرطه انتفاعا بكتاب في خزانة ولا يخرج منها ولا ينتفع به إلا بمدرسته التي بناها بصحراء أو تعذر ذلك فيخرج لغيرها وكما إذا شرط تدريسا مثلا في مكان ولم يمكن التدريس في ذلك المحل فإنه يجوز نقله. انتهى.
فقد خولف هنا شرط الواقف للضرورة، وذهبت طائفة من الفقهاء إلى جواز مخالفة الناظر لشرط الواقف لمصلحة راجحة.
جاء في فتاوى ابن تيمية: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند، وإذا وقف على مصالح الحرم وعمارته فالقائمون بالوظائف التي يحتاج إليها المسجد من التنظيف والحفظ والفرش وفتح الأبواب وإغلاقها ونحو ذلك يجوز الصرف إليهم ، وقول الفقهاء نصوص الواقف كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل . مع أن التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد يحمل على مذهبه وعادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافق لغة العرب أو لغة الشارع أو لا . والعادة المستمرة والعرف المستقر في الوقف يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة....... وكل متصرف بولاية إذا قيل له : افعل ما تشاء فإنما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه أو ما يراه مطلقا فهو شرط باطل لمخالفته الشرع، ولا أعلم خلافا أن من قسم شيئا يلزمه أن يتحرى فيه العدل ويتبع ما هو أرضى لله تعالى ولرسوله ، وسواء استفاد القسمة بولاية كالإمام الحاكم أو بعقد كالناظر والوصي. انتهى.
ويقول ابن القيم في شروط الواقف: ويجوز بل يترجح مخالفتها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها وأنفع للواقف والموقوف عليه ويجوز اعتبارها والعدول عنها مع تساوي الأمرين. انتهى.
وبهذا تعلم أن قول من قال من الفقهاء: شرط الواقف كنص الشارع. ليس كما يفهمه الكثير من حتمية اتباعه دون النظر إلى جوازه، وإمكانه أن جاز، ودون النظر إلى مراعاة مقصد الواقف والجمود على لفظه.
جاء في مواهب الجليل: قال البرزلي في مسائل الحبس سئل القابسي عمن حبس كتبا وشرط في تحبيسه أنه لا يعطى إلا كتاب بعد كتاب، فإذا احتاج الطالب إلى كتابين أو تكون كتبا شتى فهل يعطى كتابين منها أم لا يأخذ منها إلا كتابا بعد كتاب؟ فأجاب إن كان الطالب مأمونا واحتاج إلى أكثر من كتاب أخذه لأن غرض المحبس أن لا يضيع، فإذا كان الطالب مأمونا أمن هذا، وإن كان غير معروف فلا يدفع إليه إلا كتاب واحد. انتهى.
وإذا لم يشترط الواقف شروطا محددة، وترك التصرف في أموال الوقف للناظر أو جهلت شروط الواقف فيجب على الناظر العمل فيها بمقتضى المصلحة الشرعية والعرف السليم المستقر.
جاء في الإنصاف: وإن كان على قوم، وثم عرف في مقادير الصرف كفقهاء المدارس رجع إلى العرف .لأن الغالب وقوع الشرط على وفقه .وأيضا : فالأصل عدم تقييد الواقف فيكون مطلقا والمطلق منه يثبت له حكم العرف. وإن لم يكن عرف سوي بينهم؛ لأن التشريك ثابت ، والتفضيل لم يثبت .انتهى .وقال : وذكر المصنف نحوه، واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله : أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة . وهو الصواب .انتهى
وعليه، إن كان العرف في أجور الموظفين أن يحسب لهم إجازات سنوية ومرضية، فموظفوا التحفيظ مثلهم مثل سائر الموظفين، ولا يستقيم أن يعطى سائر الموظفين إجازات برواتب سنوية أو مرضية ولا يعطى المحفظون، وأما بالنسبة لمسألة تفريغهم لبعض المهام واعتبارهم على رأس عملهم فهذا لا يختلف عن الإجازات إن كان العرف جرى أن من حق الموظف أن يفرغ لمهمة أو عمل وهو على رأس عمله مع مراعاة أمرين مهمين عند التفريغ الأول: المصلحة الشرعية لهذا التفريغ فيحرم أن يفرغ الموظف حسب أهواء ومصالح القائمين على الوقف كما هو معروف في كثير من صور التفريغ هذه.
يقول ابن تيمية: الناظر ليس له أن يفعل شيئا في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه أن يفعل الأصلح فالأصلح. وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء وزيادة من أراد زيادته ونقصانه فليس للذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه أو ما يكون فيه اتباع الظن وما تهوى الأنفس، بل الذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذي هو خير ما يكون إرضاء لله ورسوله . وهذا في كل من تصرف لغيره بحكم الولاية: كالإمام والحاكم والواقف وناظر الوقف وغيرهم: إذا قيل: هو مخير بين كذا وكذا أو يفعل ما شاء وما رأى فإنما ذاك تخيير مصلحة لا تخيير شهوة. والمقصود بذلك أنه لا يتعين عليه فعل معين بل له أن يعدل عنه إلى ما هو أصلح وأرضى لله ورسوله وقد قال الواقف: على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه . وموجب هذا كله أن يتصرف برأيه واختياره الشرعي الذي يتبع فيه المصلحة الشرعية. وقد يرى هو مصلحة والله ورسوله يأمر بخلاف ذلك ولا يكون هذا مصلحة كما يراه مصلحة، وقد يختار ما يهواه لا ما فيه رضى الله فلا يلتفت إلى اختياره حتى لو صرح الواقف بأن للناظر أن يفعل ما يهواه وما يراه مطلقا لم يكن هذا الشرط صحيحا ؛ بل كان باطلا لأنه شرط مخالف لكتاب الله، ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق. انتهى.
ويجدر الانتباه إلا أنه إذا كان عدم التفريغ سيعود على العمل في أقسام التحفيظ بالضرر كأن يزهد الأكفاء في العمل فيه إذا علموا أنه لا تفريغ في هذه الأقسام فالمصلحة العمل بهذا النظام لما تقرر أن الناظر يتصرف فيها بمقتضى المصلحة.
الأمر الثاني: إذا كان الإنفاق على المتفرغ من أموال الوقف الموقوفة على جهات البر عامة دون تلك المخصصة لتحفيظ القرآن، وكان المتفرغ في عمل بر كمرشدي الحجيج فهذ لا إشكال فيه لأنه مستحق للراتب ولم يخرج عن شرط الواقف أصلا.
والله أعلم.