الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن الإسلام يحكم على ما قبله من الأديان، وأن القرآن نسخ ما قبله من الكتب، فلا يقبل من أحد بعد بعثة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، دينا غير الإسلام. قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين {آل عمران : 85} وقال سبحانه: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا {المائدة : 48}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني. رواه أحمد والدارمي، وحسنه الألباني. ولفظ رواية الدارمي: والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني.
وأما قول السائل: إن الإسلام جاء لإبادة اليهود والنصارى فليس بصحيح، وليس أدل على ذلك من الأعداد الكثيرة من هؤلاء الذين بقوا على دينهم في ديار الإسلام من يوم الفتح الإسلامي وإلى يوم الناس هذا.
فما جاء الإسلام إلا ليهدي هؤلاء صراطا مستقيما، ويبين لهم طريقا قويما، ويقيم عليهم بذلك الحجة، ويوضح لهم المحجة،كما قال عز وجل: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين* يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم .{المائدة:16،15}
وقال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير {المائدة: 19}
فمن رحمة الله بأهل الكتاب أن أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، كما قال تبارك وتعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة*رسول من الله يتلو صحفا مطهرة* فيها كتب قيمة{البينة:3،2،1}
قال السعدي: أي لا يزالون في غيهم وضلالهم، لا يزيدهم مرور السنين إلا كفرا { حتى تأتيهم البينة } الواضحة والبرهان الساطع، ثم فسر تلك البينة فقال: { رسول من الله } أي: أرسله الله، يدعو الناس إلى الحق، وأنزل عليه كتابا يتلوه، ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ولهذا قال: { يتلو صحفا مطهرة } أي: محفوظة. انتهـى.
فإن جاء الإسلام ليقيم دولته في ربوع العالم أجمع فهذا من الرحمة بالبشر، كما قال تعالى:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين {الأنبياء: 107}
فإن هذه البعثة تعني نشر الحق الذي يرضي الله تعالى، وذلك بعرضه على الناس، فمن قبله صار من أهله، ومن سالمه بأن أقر بعلوه ودفع الجزية قبلنا منه، كما قال تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها {الأنفال:61}
ومن حاربه وصد الناس عنه استحق القتل؛ لأنه لم يكتف بجحد الحق والإعراض عنه بل أبى الإقرار بعلوه ووقف في طريق نشره.
فبقبول الإسلام يصير للكافر ما للمسلمين وعليه ما عليهم. ومن أبى إلا الكفر دفع الجزية؛ إعلاما بعلو الإسلام دين الحق، وتخلية لمن وراءه والإسلام يختارون ما يشاءون، وتأمينا وحماية لأرواحهم وأموالهم، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 59982. فمن أبى الجزية فقد اختار الحرب.
فالأمر كما قال ربعي بن عامر حيث سأله رستم قائد الفرس فقال: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا؛ لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى (تاريخ الطبري 3 / 34) فليس الجهاد في الإسلام لتحصيل الغنائم وشهوات الدنيا، بل هو لإعلاء كلمة الله في الأرض، ولتخلية الناس بينهم وبين الإسلام لا يحول بينهم وبينه حائل ولا يصدهم عنه صاد.
وأما قول السائل: لم أجد أي نص يدعو إلى محاربة الوثنيين مثل الهندوس والبوذيين وغيرهم). فخطأ محض، فقد قال الله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين {التوبة : 36}وقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين {التوبة : 123} وروى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
وأما مسألة انتشار المسيحية بدون سيف، فهذا من ناحية يخالف كتابهم المقدس، ومن ناحية يصادم التاريخ والواقع بشدة، فالحق أن المسيحية المحرفة هي التي انتشرت على بحر من الدماء، ورفعت صليبها المقدس على هرم من جثث القتلى وأشلاء الضحايا، لما آل إليهم الأمر وأصبح بيدهم السلطان، حيث أنزلوا بأعدائهم ومخالفيهم ألوانا من القتل والذبح والتشريد، حتى أنشؤوا للعذاب البربري ديوانا سموه (الديوان المقدس) ومحاكم سموها (محاكم التفتيش)، ويمكن مراجعة ذلك من خلال نصوص كتابهم المقدس ومن خلال الواقع والتاريخ كحقائق ووثائق وأرقام، في كتاب (مناظرة بين الإسلام والنصرانية) وانظر للفائدة الفتوى رقم: 112470.
وأما قول السائل: إن عيسى جاء ليكمل لا لينقض، فإنه يعني المقولة المشهورة في الإنجيل: لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل) (متى 5: 17) فهذا حق، وهذا حال جميع الأنبياء، جاءوا ليكملوا مسيرة النبوة، وقد أثبت القرآن ذلك في حق عيسى عليه السلام أنه جاء مصدقا للتوراة ومقفيا للرسل من قبله، كما قال تعالى: وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين {المائدة : 46}.
فلم يرسل الله رسولا قط لينقض ما قبله، بل ليثبته ويؤكد عليه. وقد أخذ على الرسل جميعا الميثاق أن يؤمن كل رسول بمن بعده، وأن ينصره إذا أدركه، كما قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين {آل عمران: 81}
قال السعدي: يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من كتاب الله المنزل، والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلال، إنه إن بعث الله رسولا مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا ذلك على أممهم، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أوجب الله عليهم أن يؤمن بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا لأن جميع ما عندهم هو من عند الله، وكل ما من عند الله يجب التصديق به والإيمان، فهم كالشيء الواحد. انتهـى.
فدين الله واحد، ومبناه على معرفة الله وتوحيده وإفراده بالعبادة، ونبذ كل ما يعبد من دونه، والاستسلام والانقياد لأمره، كما قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت{النحل : 36}.
فدين الأنبياء واحد، وإن كانت شرائعهم شتى، فهم كالإخوة من أب واحد، وإن كانت أمهاتهم شتى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة. قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: الأنبياء إخوة من علات، وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد، فليس بيننا نبي. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
ثم ليعلم السائل الكريم أن الإسلام ما جاء لأهل الكتاب إلا بالكلمة السواء التي تتفق عليها العقول المستقيمة والفطر السليمة، كما قال سبحانه: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون {آل عمران : 64}
وهذه الكلمة هي ـ كما يقول السعدي ـ: الكلمة التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، ولم يخالفها إلا المعاندون والضالون، ليست مختصة بأحدنا دون الآخر، بل مشتركة بيننا وبينكم، وهذا من العدل في المقال والإنصاف في الجدال، ثم فسرها بقوله { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا } انتهـى.
ومن أصول الإسلام أن أتباعه يؤمنون ويعظمون جميع الأنبياء والرسل، ويحكمون بكفر من جحد ولو نبوة نبي واحد، فهم يؤمنون بأن عيسى عبد الله ورسوله كغيره من الأنبياء: نوح وإبراهيم وموسى وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعا.
قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا*أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا* والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما {النساء:152،151،150}
وقال سبحانه: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير {البقرة : 285}
والله أعلم.