السؤال
أود معرفة رأي الشرع في هذه المشكلة للمعاونة على حلها وتصفية النفوس إن شاء الله.. صاحبة السؤال هي سيدة في منتصف العقد الثالث من عمرها ولدت لأبوين غير متعلمين، وكان والدها ميسورا ويمتلك تجارة تدر ربحا وفيرا، فاستطاع تعليم أولاده الأربعة في المدارس الراقية الأجنبية حتى تخرجوا جميعا في مناصب مرموقة، وكان سخيا معهم في المأكل والمشرب والملبس... حتى عند زواج البنت الكبرى استطاع أن يشتري باسمها شقة في منطقة راقية إلى جانب السيارة التي اشتراها أثناء دراستها في كلية الطب، وتكفل بنسبة كبيرة من الجهاز إلى آخره. أما الابنة الوسطى فكان نصيبها مساهمة كبيرة في شقة باسمها أيضا إذ إن أحواله المادية بدأت في التدهور، أما الابن الوحيد فلم يأخذ من مال أبيه شيئا حيث سافر إلى الخارج فترة، ولم يكن الأب سخيا معه بدرجة كافية، ثم تدهور الوضع المالي للأب شيئا فشيئا، وعند بلوغ الابنة الصغرى 19 عاما تقريبا كان الأب يجد صعوبة في توفير المعيشة اليومية، وقرر التفرغ لمشكلاته المالية، دونما اهتمام يذكر بهذه الابنة التي عاشت مع والدتها المريضة بعد زواج الجميع وخلو البيت، وفي هذه الفترة وافق الأخ على إعطاء والدته وأخته مبلغا شهريا يعينهم على المعيشة، وكافحت الابنة حتى تخرجت من كليتها بتفوق ووجدت عملا ثابرت فيه حتى تميزت واستطاعت الادخار لتجهيز نفسها، وبالفعل ارتبطت برجل كريم عرف بظروفها وقبلها بدون أن يساهم أهلها في أي شيء مطلقا، المشكلة هي أن الابنة الصغرى شعرت دوما بالدونية والحزن إذ إنها لم تأخذ حقها مثل أختيها اللتين تعيشان في مستوى مادي واجتماعي أفضل منها بكثير، وظلت في كل مناسبة تثير الموضوع وتطالب بحقها، ولم يبق إلا الشقة التي يعيش فيها الأبوان، والتي كتبها الأب باسم الأم، مع ملاحظة أن الابنة الصغرى ظلت مع والدتها المريضة التي تعرضت لعدة عمليات جراحية، بينما تنكر بقية الإخوة للأم والأب، ففي عام من الأعوام بعدما يئست الابنة الصغرى من الحصول على الشقة وكتابتها باسمها، وجدت أمها تقرر أن تهبها الشقة بشرط عدم تمكنها منها إلا بعد وفاتها ووفاة الأب كتعويض عن عدم المساهمة في زوجها، وذلك بموجب عقد بيع رسمي وليس عقد هبة، ففعلت ذلك سرا مع والدتها، وبعد فترة حدث خلاف بينها وبين أمها، فاشتكت الأم للأبناء الآخرين، وأرادت استرداد عقد بيع الشقة، وعبثا حاولت الابنة أن تقول أن هذه ليست إلا ورقة، وأنها لن تستخدمها ولا نعرف من الذي سيموت قبل من، ولكن الأم أفسدت العلاقات بين الأبناء الذين يريدون أن يرثوا - بعد وفاة الأم والأب - في الشقة، ولا يوافقون أن تأخذ أختهم الشقة وحدها، حيث إنها كبيرة وفي موقع متميز، مع ملاحظة أسعار العقارات الآن، السؤال الآن ما الذي على الابنة الصغرى فعله، هل تعيد الورقة، وفي هذه الحالة يمكن أن تكتب الأم الشقة للابنة الوسطى حيث إنها هي التي تدعمها ماديا، أم تتمسك بحقها في الشقة... أم أنها ليس لها أي حق. مع ملاحظة موافقة الأب الذي اشترى الشقة موضوع الخلاف على إعطائها للابنة الصغرى، فأفيدونا؟ جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الراجح من أقوال أهل العلم أنه يجب على الأب العدل بين أولاده في الهبات والعطايا، لقوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم. متفق عليه. وأنت قد ذكرت أن أباكم لم يقصر حال يسره وغناه في تعليمكم ولا في تزويج أخواتك والقيام على سائر مصالحكم، وكان في ذلك كله سخيا غاية السخاء، ولكن قدر الله أن ينزل به من الفقر وضيق الرزق بعد ذلك ما منعه من القيام معك في زواجك بمثل ما فعل مع أختيك، ولذا فهو معذرو في ذلك، وليس لك أن تحمليه ما لا يطيق. فمن أين سيعطيك مثل ما أعطى أختيك وهو لا يجد.
أما بخصوص الشقة التي كتبها الأب باسم الأم، فإن كانت الأم قد حازتها بحيث تتصرف فيها تصرف الملاك، فهي ملكها، ولكنها ما دامت قد رغبت في استرجاعها منك بعدما كتبتها لك، فهذا حقها لأن الهبة إنما تملك بالقبض على الراجح من أقوال أهل العلم، ولم يكن منك قبض لهذه الشقة، هذا بالإضافة إلى أن هذه الهبة معلقة ومضافة إلى ما بعد موت والديك، وهذا يبطلها لأن الهبة من عقود التمليكات، والتمليكات لا تقبل الإضافة ولا التعليقات.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: ولما كانت الهبة من عقود التمليكات، وإن مقتضى التمليك هو الجزم والتنجيز، لذلك فقد منع فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة في المعتمد تعليق الهبة أو إضافتها إلى المستقبل، لأن الهبة تمليك في الحال، والتعليق والإضافة تنافيه. انتهى.
والتحايل على تحويل هذه الهبة بيعا بكتابة عقد بيع لها، لا أثر له، إذ العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، فهي إذا هبة معلقة على الموت، بل لو افترضنا وقوع هذه الهبة صحيحة، وتم قبضها، فإن الأم يجوز لها الرجوع فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده. والأم داخلة في قوله (إلا الوالد) كما ذهب إليه جمع من الفقهاء، أما إذا كان الأمر مجرد كتابة لها من والدك فقط ولم تقبضها، فإن أمك نفسها لم تملك هذه الشقة، وهي ما زالت على ملك الأب، لذا فإن عليك أن ترجعي هذا العقد لأمك حيث طلبته منك، لما ذكرنا ولأنه لا حق لك فيها، ولا يحملنك على التمسك بها خوفك أن تهبها أمك لأختك، فهذا ليس بعذر بل يجب أن تؤدي ما عليك وتسألي الله الذي لك، مع التنبيه أن الأم إذا فعلت ذلك فقد عصت الشرع وخالفت أمره بالعدل بين أولادها، فأمرها حينئذ لله وحسابها عليه.
ثم ليكن همك في الدنيا بعد طاعة الله هو بر والديك وإرضاءهما، فإن الدنيا متاع قليل وعرض زائل، والآخرة خير وأبقى، واعلمي أن من أعظم نعم الله عليك أن مد الله في أعمار والديك، فأدركتهما وهما على قيد الحياة، فهذه نعمة عظيمة حرم منها كثيرون. فعليك أن تستثمريها وتجعليها سلما لبلوغ رضوان الله والفوز بجناته، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضا الله من رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد. رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وحسنه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه. رواه الترمذي. وصححه الألباني. وقال عليه الصلاة والسلام: ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.
والله أعلم.