حكم من مات على الكفر وحيل بينه وبين معرفة الإسلام

0 560

السؤال

سؤالي هو: يقول الله تعالى في سورة المائدة: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. ويقول سبحانه في سورة إبراهيم: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار. أفهم أن الذين يضلون هم في النار، فما بال الذين أضلهم قوم آخرون؟ يعني: هناك من غير المسلمين – على مر العصور - من هو أمي لا يعرف لا القراءة ولا الكتابة وهو ساذج، ولم تصله دعوة الإسلام، فيأتيه من يشوه له صورة الإسلام فيقنعه بأن دينه، نصرانية كان أو غيرها، هو الدين الحق، فيبقى على دينه ولربما يقاتل المسلمين -في الفتوحات مثلا- فيقتل ويموت وهو يظن أنه على هدى، تماما كما يظن المسلم أنه على هدى، أنا لا أشكك في دين الله فأنا مسلم والحمد لله، لكن أريد أن أفهم، أقول فهذا الذي يموت على هذه الحال كان يسمع لرجال دينه الذين يخفون الحقيقة ويعتقد أنهم صادقون..الخ. وأنا أعلم أن المسلمين أمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم. فكيف يكون في النار وهو لم يفهم دعوة الإسلام كما يجب، هل لأن الله سبحانه يعلم ما في قلبه أم ماذا؟
وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

 فإذا كان هذا الصنف المذكور في السؤال لم يعرف حقيقة الإسلام، وكان حريصا على معرفة الحق، ولكن حيل بينه وبين معرفته على وجهه الصحيح، فهذا كفره كفر جهل، وهو الذي نفى الله عنه التعذيب، وحكمه في الآخرة أنه يمتحن يوم القيامة مثل الأربعة المذكورين في الحديث.

أما من سمع بالإسلام فلم يرفع به رأسا، ولم يرد معرفة حقيقته أصلا ولا طلبها، فهذا كفره كفر إعراض، وهو مستحق للعذاب في الآخرة.

وقد فصل ابن القيم  رحمه الله في كتاب طريق الهجرتين القول في هذه المسألة بما يحسن نقله، قال:

لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، فكل من تمكن من معرفة ما أمر الله به ونهى عنه فقصر عنه ولم يعرفه، فقد قامت عليه الحجة، وهو بتمكنه وإعراضه مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا: أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده فهذا حكمه حكم أرباب الفترات -وهم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل ولم يرسل إليهم الأول ولا أدركهم الثاني يشمل ما بين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام-, ومن لم تبلغه الدعوة.

الثاني: معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك دينا خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني: راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز، وهذا لا يجب أن يلحق بالأول؛ لما بينهما من الفرق، فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزا وجهلا. والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض، فتأمل هذا الموضع والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة وهو مبني على أربعة أصول:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وهذا كثير في القرآن يخبر أنه إنما يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة وهو المذنب الذي يعترف بذنبه.قال تعالى: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. والظالم من عرف ما جاء به الرسول أو تمكن من معرفته بوجه، وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟!

الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين:

أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها.

الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها.

فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل.

والأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية  دون أخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: أربعة يوم القيامة يدلون بحجة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ومن مات في الفترة. فأما الأصم فيقول: يا رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: جاء الإسلام والصبيان يقذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: لقد جاء الإسلام وما أعقل، وأما الذي مات على الفترة فيقول: يا رب ما أتاني رسولك فيأخذ مواثيقهم ليطعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما. رواه أحمد وغيره عن الأسود بن سريع وأبي هريرة وصححه الألباني.

الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة. من كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية بتصرف.

 والله سبحانه وتعالى أعلم بمن يستحق العذاب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.

 وراجع للأهمية الفتاوى ذوات الأرقام الآتية :39870،  59524،  60700.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة