الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما. وروى الطبراني، والحاكم عن كعب بن مالك مرفوعا: إذا فتحت مصر، فاستوصوا بالقبط خيرا، فإن لهم ذمة ورحما. وصححه الألباني. وهذا رواه الطحاوي في بيان مشكل الآثار بزيادة: يعني أن أم إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- كانت منهم. وقال: فعقلنا بذلك أن تلك الرحم التي ذكرها -صلى الله عليه وسلم- أنها من قبل هاجر أم إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-. اهـ.
وقال ابن الأثير في النهاية: معنى قوله: فإن لهم ذمة ورحما، أي: أن هاجر أم إسماعيل -عليه السلام- كانت قبطية من أهل مصر. اهـ.
وأما ما يتعلق بمارية -رضي الله عنها-، فهو في رواية أخرى لحديث أبي ذر عند مسلم أيضا، بلفظ: فإن لهم ذمة وصهرا.
قال النووي في شرح مسلم وفي رياض الصالحين: أما الرحم، فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر، فلكون مارية أم إبراهيم منهم. اهـ.
وروى ابن الجوزي في كشف المشكل أن سفيان سئل عن قوله "فإن لهم ذمة ورحما" فقال: من الناس من يقول هاجر كانت قبطية وهي أم إسماعيل، ومن الناس من يقول كانت مارية أم إبراهيم قبطية. اهـ.
وقال المناوي في فيض القدير: (فإن لهم ذمة) ذماما وحرمة وأمانا من جهة إبراهيم بن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فإن أمه مارية منهم (ورحما): قرابة، لأن هاجر أم إسماعيل منهم. اهـ.
فحق أهل مصر بسبب مارية من جهة كونها أم إبراهيم، ولا يعني هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- تزوجها، بل كانت سرية عنده أهداها له المقوقس ملك مصر، وعلى هذا نص أهل العلم، فذكروا مارية في سراريه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يذكروها في أزواجه، قال الصالحي في سبل الهدى والرشاد: قال ابن عبد الحكم: إن صهرهم تسري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم، أي بمارية، ونسبهم أن أم إسماعيل هاجر منهم اهـ.
وروى النسائي في السنن الكبرى عن الزهري قال: كانت له سرية قبطية يقال لها مارية. اهـ.
وذكرها في السراري الحاكم في (المستدرك)، وابن عبد البر في الاستيعاب، وابن الأثير في أسد الغابة، وابن القيم في زاد المعاد وغيرهم.
وأما قوله تعالى: اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم {البقرة: 61}، فقد اختلف المفسرون في المراد بها، قال ابن الجوزي في زاد المسير: فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة وابن زيد، وإنما أمروا بالمصر، لأن الذي طلبوه في الأمصار.
والثاني: أنه أراد البلد المسمى بمصر، وفي قراءة عبد الله والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش (مصر) بغير تنوين، قال أبو صالح عن ابن عباس: أراد مصر فرعون. وهذا قول أبي العالية والضحاك، واختاره الفراء، واحتج بقراءة عبد الله، قال: وسئل عنها الأعمش فقال: هي مصر التي عليها صالح بن علي اهـ. وراجع في ذلك الفتوى: 46602.
وأما حديث: أهل مصر خير أجناد الأرض. فرواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر بلفظ: إذا فتح الله عليكم مصر، فاتخذوا فيها جندا كثيفا، فذلك الجند خير أجناد. فقال أبو بكر: ولم يا رسول الله؟ قال: لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة.
قال الشيخ عبد الله بن حمود المخلفي في رسالته للماجستير في تخريجه لأحاديث فتوح مصر: أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر، والدارقطني في المؤتلف والمختلف، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وابن زولاق في فضائل مصر، وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريقين عن عبد الله بن لهيعة عن الأسود بن مالك الحميري عن بحير بن ذاخر المعافري عن عمرو بن العاص عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وإسناده ضعيف، لأن مداره على ابن لهيعة وهو ضعيف، وفيه أيضا الأسود بن مالك ولم أجد له ترجمة، وبحير بن ذاخر مجهول الحال.
ولهذا الجزء من الحديث شاهد من حديث أبي سالم الجيشاني، أخرجه ابن عبد الحكم أيضا، وإسناده ضعيف، لأن مدراه على ابن لهيعة أيضا. اهـ.
وللفائدة يرجى الاطلاع على الفتاوى التالية: 8717، 46249، 49096.
وأما كون أصل النيل من الجنة، فصحيح، وكذلك نهر الفرات وسيحان وجيحان، كما سبق بيانه في الفتويين: 42976، 11072.
وأما دخول المسيح عيسى ابن مريم وأمه إلى مصر، هربا من ملك بيت المقدس من قبل قيصر: هيردوس الكبير، فقد ذكره الطبري في تاريخه (1/355)، وهذا أحد الأقوال في تفسير قوله تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين {المؤمنون:50}.
قال ابن الجوزي في زاد المسير: اختلف المفسرون في موضع هذه الربوة الموصوفة على أربعة أقوال... والرابع: مصر، قاله وهب بن منبه وابن زيد وابن السائب. اهـ.
وكذلك حال نبي الله يوسف وأبيه يعقوب -عليهما الصلاة والسلام-، ودخولهما مصر ثابت ومشهور في القرآن، في سورة يوسف وسورة غافر.
وأما نبي الله أيوب -عليه السلام-، فلا نعلم له علاقة بأرض مصر ولا بالقبط، قال ابن كثير في قصص الأنبياء: الصحيح أنه من سلالة العيص بن إسحاق... قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلا كثير المال.. بأرض الثنية من أرض حوران. اهـ.
والله أعلم.