الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فميتة الحيوان من النجاسات، ونجاستها نجاسة عينية عند الفقهاء: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. وحكى الرازي الإجماع على نجاستها. فتسميد الأرض بها له حكم التسميد بالنجاسة، وهذا محل خلاف بين العلماء، فذهب المالكية والشافعية إلى أن من الطاهر الزرع الذي سقي بنجس، أو نبت من بذر نجس، وظاهره نجس فيغسل قبل أكله، وإذا سنبل فحباته الخارجة طاهرة قطعا ولا حاجة إلى غسلها، وهكذا القثاء والخيار وشبيههما يكون طاهرا ولا حاجة إلى غسله، واستثنى الشافعية روث الكلب والخنزير فلم يجيزوا التسميد بأي منهما.
وذهب الحنفية إلى أنه يجوز التسميد بالنجاسات، والزروع المسقية بالنجاسات لا تحرم ولا تكره.
وظاهر مذهب الحنابلة تحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس. ولأنه تترك أجزاء النبات بالنجاسة، والاستحالة لا تطهر النجس عندهم.
وقال ابن عقيل: يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم، ولا يحكم بتنجيسها لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحما ويصير لبنا، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدمل أرضه بالعرة ويقول: مكتل عرة مكتل برة. والعرة عذرة الناس. انتهـى.
وقد سبق في الفتوى رقم: 40327، ترجيح أن السماد النجس يجوز استخدامه مع الكراهة. وثمر الشجر النابت بين المقابر فيه شبه ـ عند بعض أهل العلم ـ بالزرع المسمد بالنجس.
قال ابن مفلح في الفروع: كره أحمد ماء بئر بين القبور وشوكها وبقلها. قال ابن عقيل: كما سمد بنجس والجلالة. انتهـى.
ونقله عن الفروع البهوتي في شرح منتهى الإرادات، والرحيباني في مطالب أولي النهى، وابن ضويان في منار السبيل.
على أنه يجدر التنبيه على أن أهل العلم قد اختلفوا في ميتة الآدمي، والمعتمد عند الجمهور خلافا للحنفية أنها طاهرة سواء كان كافرا أو مسلما، وهذا ما رجحه الأستاذ الدكتور خالد بن علي المشيقح في: فقه النوازل في العبادات.
وأما مسألة غرس الأشجار في المقابر فإن كان ذلك بغرض الزينة والتجميل فهذا يخرج المقابر عن الغرض الذي شرعت زيارتها من أجله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: زوروا القبور فإنها تذكر الموت. رواه مسلم.
قال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب: المقبرة دور الأموات ليست دورا للأحياء حتى تزين وتشيد ويصب عليها الإسمنت، ويكتب عليها الكلمات الرثائية والتأبينية، وإنما هي دار أموات يجب أن تبقى على ما هي عليه حتى يتعظ بها من يمر بها، وقد ثبت في الصحيح من حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة. وإذا فتحنا الباب للناس ليقوموا بتزيين القبور وتشيدها والكتابة عليها صارت المقابر محلا للمباهاة ولم تكن موضع اعتبار للأحياء. انتهى.
ولذلك نص بعض أهل العلم على بطلان الوقف لتزيين المقابر. قال الشوكاني في الدراري المضية: الوقف على القبور لرفع سمكها أو تزيينها أو فعل ما يجلب على من يراها الفتنة باطل. انتهـى.
وأما إن كان هذا الغرس بغرض نفع الناس بالظل أو الثمر، فهذا وإن لم يرد في القرآن أو السنة النهي عنه بخصوصه، إلا أن العمل في القرون المفضلة المشهود لها بالخيرية لم يكن على ذلك، مع ما قد يترتب عليه من المشي أو الجلوس على القبور، والاتكاء عليها والاستناد إليها، وهذه أمور منهي عنها، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 64447.
والأشد من هذا أن تشجير المقابر أمر معهود عند النصارى ففيه تشبه بهم، قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في فتاويه: تشجير المقبرة لا يجوز، وفيه تشبه بعمل النصارى الذين يجعلون مقابرهم أشبه ما تكون بالحدائق، فيجب إزالتها وإزالة صنابير الماء التي وضعت لسقيها، ويبقى من الصنابير ما يحتاج إليه للشرب وتليين التربة. انتهـى.
وقد سئل الدكتور محمد بن عبد الرحمن الجهني، عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية: هل يجوز زراعة الأشجار والأزهار في المقابر بغية أن يتظلل بها من يزورون المقابر ولكي تأخذ المقبرة رونقا جميلا للزائرين؟ فأجاب: تزيين المقابر منهي عنه، فلا يجوز زراعة الأشجار والأزهار فيها لتزيينها، وكذا لا ينبغي زراعتها ليتظلل بها زائرها؛ فإنه لا حاجة شرعية لهذا، والمقابر تزار للعظة والعبرة وتذكر الآخرة، لا للسياحة والترفه. انتهـى.
والله أعلم.