الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المسلم مأمور بأن يبتعد عن المعاصي كلها، كبيرها وصغيرها، ولا يستهين بالمعصية بسبب أنها دون الكفر ، فعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم ومحقرات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه. رواه الإمام أحمد بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
وعن أنس رضي الله عنه قال : إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات يعني بذلك المهلكات .
فالعاقل لا ينظر إلى صغر الذنب، ولكن ينظر إلى عظمة من يعصيه
.
فالواجب على المسلم أن يترك المعاصي بالكلية، ويحذر من عظيم ضررها ، وإذا ابتلي بمعصية فعليه أن يبادر بالتوبة إلى الله تعالى.
ولمزيد الفائدة في بيان ضرر المعاصي على دين العبد ودنياه ننصحك بمطالعة كتاب الجواب الكافي للإمام ابن القيم .
أما بخصوص ما تسألين عنه فإن من وقع في فعل من الأفعال الكفرية، ولم يعلم هل هو كفر أو معصية فقد اختلف العلماء في حكمه هل يكفر أم يعذر بجهله، وقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون {الحجرات:2}
فظاهر الآية يدل على أن العبد قد يقع في الكفر وهو لا يشعر ، ولكن قال القرطبي في تفسيره : وليس قوله أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم . اهـ .
وتعقب الشنقيطي في أضواء البيان القرطبي بقوله : وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر ، وقد قال القرطبي إنه لا يحبط عمله بغير شعوره وظاهر الآية يرد عليه.
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: وقوله عز وجل:أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقى لها بالا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض. ا هـ محل الغرض منه بلفظه . اهـ .
وجاء في الفتاوى الهندية : ومن أتى بلفظة الكفر ، وهو لم يعلم أنها كفر إلا أنه أتى بها عن اختيار يكفر عند عامة العلماء خلافا للبعض ، ولا يعذر بالجهل كذا في الخلاصة . اهـ .
والذي يظهر لنا أن الفعل إذا كان معلوما لا يخفى على آحاد الناس أنه فعل كفري كالسجود للصنم أو إلقاء المصحف في القاذورات فمن فعل ذلك فإنه يكفر ، أما إذا كان أمرا خفيا فلا يكفر من فعله إلا بعد العلم بذلك ، حتى وإن قصر في طلب العلم.
جاء في مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام ابن تيمية : ومن اعتقد أن زيارتها – أي الكنائس - قربة فقد كفر ، فإن كان مسلما فهو مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر فقد كفر وصار مرتدا. اهـ .
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر: كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس لم يقبل منه دعوى الجهل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك، كتحريم الزنى والقتل والسرقة والخمر والكلام في الصلاة والأكل في الصوم. ا.هـ.
وراجعي ضوابط العذر بالجهل في الفتوى رقم : 111072 .
ويحسن أن ننبه هنا إلى أمور :
الأول : أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بمجرد الذنوب ما لم يستحلها مرتكبها . ومن الأفعال التي يكفر بها المسلم كما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية : اتفق الفقهاء على أن إلقاء المصحف كله في محل قذر يوجب الردة، لأن فعل ذلك استخفاف بكلام الله تعالى ، فهو أمارة عدم التصديق . وقال الشافعية والمالكية : وكذا إلقاء بعضه . وكذا كل فعل يدل على الاستخفاف بالقرآن الكريم . كما اتفقوا على أن من سجد لصنم ، أو للشمس ، أو للقمر فقد كفر . ومن أتى بفعل صريح في الاستهزاء بالإسلام ، فقد كفر . قال بهذا الحنفية ودليلهم قوله تعالى : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } . اهـ .
الثاني : أن الحكم بالكفر على الشخص المعين ليس بالأمر الهين، بل لا بد أن يكون بعد انتفاء الموانع، فمن ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد قيام الحجة وإزالة الشبهة، وراجعي ضوابط التكفير في الفتوى رقم : 721 .
الثالث : أن الواجب على المكلف ألا يقدم على فعل قبل أن يتبين حكمه خاصة لو اشتبه عليه أمره .
جاء في إذا إدرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط: من القاعدة التي حكى الغزالي في إحياء علوم الدين والشافعي في رسالته الإجماع عليها من أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه . اهـ .
الرابع : أن العبد إذا ابتلي بالوساوس في هذه الأمور فالعلاج الناجع للوساوس هو الإعراض عنها ، واللجوء إلى الله تعالى بالدعاء. وراجعي فتوانا رقم: 117523.
وننصحك بالإكثار من الطاعات والدعاء وقراءة القرآن وصحبة الصالحات ، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياك على الإسلام، وأن يتوفانا على الإيمان ، ونرحب بأسئلتك واستفساراتك فيما يشغلك من أمور دينك .
والله أعلم.