الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الشرع الحكيم الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين من لدن رب العالمين، قد قدم النساء في حضانة الأطفال على الرجال، وهذا من محاسن الشريعة الغراء، ومن نظر في ذلك أدنى نظر أدرك الحكمة، ذلك أن النساء أشفق وأرفق وأهدى إلى تربية الصغار، وهذا لا يجادل فيه إلا معاند، قال ابن عاصم في التحفة:
وصرفها إلى النساء أليق لأنهن في الأمور أشفق
جاء في المستدرك على مجموع الفتاوى: لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم، وأصبر في هذا الموضع فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع. انتهى.
وقد جعل الشرع أمر حضانة الطفل إلى أولى الناس به، وهي أمه ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فإن الحضانة تنتقل إلى غيرها، وهذا فيه من الحكم وتحقيق المصالح لجميع الأطراف ما فيه، أما تحقيقه لمصلحة الأم فإنها بعد الزواج قد صارت مشغولة بحق الزوج، وحقه عليها أعظم الحقوق وأكبرها، فلم يجمع عليها مع ذلك حضانة الولد حتى لا تنشغل به عن حق زوجها، أو تنشغل بحق زوجها عن حق الصغير وحقه لا يحتمل التفريط ولا الإهمال لضعفه وقلة حيلته.
وأما تحقيقه لمصلحة الطفل فلأنه في الغالب ما تنشأ حالة من الغيرة والتنافر بين الزوج وربيبه، ويشعر أن هذا الطفل إنما يذكر زوجته بزوجها الأول وحياتها الماضية، فمن حكمة الشريعة ألا تجعل لرجل بهذه النفسية سلطانا على هذا الطفل المسكين، فرفعت عنه ذلك الضرر البين بنقله فور زواج أمه إلى غيرها من الحاضنين.
أما بخصوص من تنتقل إليه حضانة الطفل بعد أمه، فقد حصل خلاف بين الفقهاء في ذلك ولم تتفق كلمتهم على ما ذكرت من تقديم الخالة بعد الأم، بل لم يذهب لتقديم الخالة بعد الأم إلا أقل الفقهاء. وراجع ترتيب الحاضنين في الفتوى رقم: 6256 فإن فيها ذكر أقوال الفقهاء مفصلة.
وأما قولك إن المذهب الحنفي قد جعل جميع النساء المذكورات أولى بالحضانة من الأب وزوجه، فنقول ابتداء: نحن لا نفتي بمذهب معين، ولكنا نفتي بما يترجح لدينا حسب قوة الدليل وظهوره، ولم يتعين المذهب الحنفي مذهبا للمسلمين حتى تلزمهم بأقواله، على أن مذهب الأحناف في تقديم هؤلاء النسوة له حظ كبير من النظر، ذلك لأن هؤلاء النسوة سواء كن جدات للمحضون أو أخوات أو خالات أو عمات له لا شك أنهن أحفظ له – في الغالب – وأحرص على مصلحته من زوجة أبيه، ومعلوم في الواقع المشاهد ما ينشأ غالبا بين المرأة وأولاد زوجها من التغاير والتنافر، فوجود الأولاد في حضانتها قد يعرضهم للضياع خصوصا إذا أنجبت هي أولادا من زوجها واشتغلت بهم، هذا إذا كان للأب زوجة. أما إذا لم يكن له زوجة فنصيب أولاده من الضياع أكبر وأعظم إذ أنه في الغالب سينشغل عنهم بطلب الرزق وأمور المعاش.
ومن هنا يتبين لك أن أمر الحضانة لا يقارن فيه بين الرجال والنساء على حسب درجة القرابة؛ لأن أمر الحضانة أصلا مرده للنساء دون الرجال، فمقارنتك بين النساء المذكورات والأب مقارنة في غير محلها.
وأما قولك إن الخالة ليست من الوارثات فهذا إطلاق غير صحيح، لأن الخالات من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام يرثون على مذهب جمهور أهل العلم، بل قد حكى بعضهم أن هذا قول جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليهم وسلم قال أبو حازم: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير زيد بن ثابت على توريث ذوي الأرحام، ولا يعتد بقوله بمقابلة إجماعهم.
وأما الفقهاء فقد قال بتوريثهم: الحنفية والإمام أحمد، ومتأخرو المالكية والشافعية وعيسى بن أبان وغيرهم.
ولكنهم لم يذكروا في آيات تفصيل المواريث في القرآن؛ لأنهم لا يرثون في كل الأحوال وإنما يرثون بشرطين:
الشرط الأول: عدم جميع العصبة.
الشرط الثاني: عدم جميع أصحاب الفروض سوى الزوجين.
على أن أمر الميراث لا مدخل له في أمر الحضانة أصلا.
مع التنبيه على أن هذا الكلام كله بخصوص الحضانة، إنما هو فيما قبل بلوغ الطفل سن السابعة. أما من بلغ السابعة فقد حصل خلاف بين الفقهاء هل يضم إلى أبيه أو يخير بين الأب والأم، وكذا حصل الخلاف في البنت خاصة هل تستمر حضانتها إلى زواجها أم إلى بلوغها تسع سنوات أو غير ذلك، وكل هذا قد تم بيانه في الفتوى رقم: 6256.
والذي نراه راجحا هو مراعاة مصلحة الطفل، قال الشوكاني: في نيل الأوطار : واعلم أنه ينبغي قبل التخيير والاستهام ملاحظة ما فيه مصلحة للصبي، فإذا كان أحد الأبوين أصلح للصبي من الآخر قدم عليه من غير قرعة ولا تخيير، هكذا قال ابن القيم، واستدل بأدلة عامة نحو قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا. وزعم أن قول من قال بتقديم التخيير أو القرعة مقيد بهذا، وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه قال: تنازع أبوان صبيا عند الحاكم فخير الولد بينهما فاختار أباه، فقالت أمه: سله لأي شيء يختاره؟ فسأله فقال: أمي تبعثني كل يوم للكاتب والفقيه يضرباني، وأبي يتركني ألعب مع الصبيان! فقضى به للأم. انتهى.
وأما قولك إن الحضانة معناها التربية، فهل لكل هؤلاء النسوة الحق في التربية فنقول لك: قد خلطت في كلامك هذا بين الحضانة والتربية، فإن الحضانة معناها القيام على مصلحة الطفل في حاجاته وما لا بد له منه من تغذيته وحمله وتنويمه وغسل ملابسه ونحو ذلك من أمور معاشه، ولا يقصد منه التربية في المقام الأول، وإن كان لا يخلو أمر الحضانة من القيام بقدر ما من تربية الطفل وتوجيهه، ولذا كانت العفة وعدم الفسق من شروط الحضانة كما بيناه في الفتوى رقم: 9779.
أما التربية بمعناها الشامل الكامل فمردها إلى الأب، ولو كان الولد في غير حضانته، ولذا فقد قرر الفقهاء عليهم الرحمة أن الأم إذا استحقت الحضانة فإنها لا تمنع الأب من مباشرة تربيته وتعليمه ودفعه لمعلم، ولكن لا يبيت إلا عند أمه. قال خليل بن إسحاق المالكي: وللأب تعاهده وأدبه وبعثه للمكتب. قال شارحه الحطاب: هذا نحو قوله في المدونة وللأب تعاهد ولده عند أمه وأدبه وبعثه للمكتب ولا يبيت إلا عند أمه. انتهى.
وأما إنكارك تقديم جهة الأم على جهة الأب في الحضانة فهو إنكار وجيه في جملته. وإنا لنحيلك في بيان وجاهته على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث بين أنه قد حصل خلاف بين الفقهاء في هذا، ورجح تقديم جهة الأب، جاء في المستدرك على مجموع الفتاوى: ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال ؟
وهذا فيه قولان للعلماء يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة والخالة ونحو ذلك، هذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد، وأرجح القولين في الحجة، تقديم نساء العصبة فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره، وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب.
وعلل ذلك من علله - كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم؛ فإن قرابتها فيها رحم وتعصيب، بخلاف قرابة الأم فإن فيها رحما بلا تعصيب، فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة، كما تقدم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال، بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وأن الحضانة لا تثبت إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم. وعلى الوجه الثاني: فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
فلو كانت جهة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح لرجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها.
وأيضا فمجموع أصول الشرع إنما تقدم أقارب الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من الأحكام فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة.
ولكن قدموا الأم لكونها امرأة وجنس النساء مقدمات في الحضانة على الرجال، وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد، كما قدمت الأم على الأب، وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله، هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.
وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول. انتهى
والله أعلم.