الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا نجد ما نبدأ به الجواب إلا أبياتا من شعر الحكمة للمتنبي، حيث يقول:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم.
ويقول أيضا:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرا به الماء الزلالا.
ويقول أيضا:
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل.
فهؤلاء الأنجاس لما طغت الشهوات على حياتهم وصارت هي غايتهم، فبها ولها يعيشون، صارت هي التي يفسرون بها الواقع والتاريخ، كحال هذا الخبيث المدعو فرويد حيث استمد من حيوانية الإنسان نظريته في تفسير السلوك الإنساني من الولادة حتى الوفاة تفسيرا حيوانيا بشعا، فهو يرى أن الدافع الجنسي هو دافعه الوحيد، فالمولود يرضع ثدي أمه بدافع جنسي، ويتبرز بدافع جنسي، ويظل يتعامل مع الآخرين بناء على هذا الدافع وحده، والدين والأخلاق والمثل العليا كلها نابعة من هذا الدافع أيضا، وهكذا فالإنسان عند فرويد ليس حيوانا فحسب، بل هو حيوان جنسي، وراء كل حركة منه شهوة جنسية ظاهرة أو خفية، واستمد من ماديته جبرية نفسية تجعل الإنسان خاضعا لغريزته مسيرا بها بلا اختياره، فهو لا يملك إلا الانصياع لأوامرها وإلا وقع فريسة الكبت المدمر للأعصاب راجع كتاب: العلمانية للدكتور سفر الحوالي.
وهذه الشبهة التي يسأل عنها السائل الكريم إنما هي من هذا الباب، فهذا الحديث المذكور رواه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، وعبد الرزاق في مصنفه، وأحمد وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم، والترمذي في الشمائل، والطبراني في الكبير، والحسين البغوي في شرح السنة. وصححه ابن حبان وابن حجر والألباني والأرناؤوط. وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح. اهـ.
وقال ابن حجر في الإصابة: للحديث شواهد من رواية سالم بن أبي الجعد الأشجعي عن رجل من أشجع يقال له زاهر بن حرام وكان بدويا لا يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه إلا بطرفة أو هدية، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يبيع سلعة فأخذ بوسطه. الحديث. اهـ.
والحديث كما هو ظاهر إنما يذكر في حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته، وجميل ممازحته لأصحابه وتواضعه لهم، كما أمره ربه تعالى فقال: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. {الشعراء: 215}. وقد بوب عليه في المزاح جماعة ممن أخرجوه، منهم الترمذي في الشمائل، وعبد الحق في الأحكام الكبرى، والبغوي في شرح السنة، والبيهقي في الآداب.
وذكره ابن الجوزي في كتاب الوفا بأحوال المصطفى، وابن كثير في البداية والنهاية في باب ذكر مزاحه صلى الله عليه وسلم، وذكره أبو البركات الغزي في كتاب المراح في المزاح، وذكره ابن مفلح في باب حسن الخلق من كتاب الآداب الشرعية.
وبوب عليه عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في السنن الكبرى باب: التحريض على الهدية. وقد سبق أن ذكرناه في فتوى عن الهدي النبوي في المزاح، وهي برقم: 61644.
هكذا تعامل ذوو العقول السليمة والأفهام المستقيمة مع الحديث وفهمه، وهذا الإلزاق الذي فعله زاهر عندما عرف من الذي احتضنه من خلفه، إنما كان تبركا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاري في مرقاة المفاتيح: فاحتضنه. أي أخذه من حضنه، وهو ما دون الإبط إلى الكشح-من خلفه- أي من جهة ورائه، وحاصله أنه عانقه من خلفه بأن أدخل يديه تحت إبطي زاهر وأخذ عينيه بيديه لئلا يعرفه. وقيل: معناه أنه أخذ من عقبه من غير أخذ عينيه، ذكره النووي.... -لا يألو- أي لا يقصر ما ألزق ظهره بصدر النبي- أي تبركا حين عرفه، قيل ذكره ثانيا اهتماما بشأنه وتنبيها على أن منشأ هذا الإلزاق ليس إلا معرفته. اهـ.
وقد تغافل هؤلاء المعاندون أن هذه القصة حدثت في السوق، يعني في العلن على مرأى الناس ومسمعهم، وأن هذه الهيئة المذكورة في الحديث وهي الاحتضان من الخلف هيئة معروفة في الممازحة، حتى إن الصبيان الصغار يستعملونها في لعبهم.
ولكن والعياذ بالله الهوى يعمي ويصم، فإن هؤلاء النصارى لما انتقد المسلمون كتابهم المحرف من عدة جهات، منها جهة الأسلوب، والمادة الإباحية الفاجرة التي تعرض في بعض فقرات الكتاب المقدس، حتى لقد جمع أحدهم بعض ذلك في بحث بعنوان: إباحيات الكتاب المقدس. وهو متوفر على موقع المكتبة الشاملة. فلما رأى النصارى ذلك عمدوا إلى كتب المسلمين يلتمسون بها شيئا من ذلك فلم يجدوا إلا مثل هذا الحديث، الذي إن عرض على أمثالهم ممن تربى على الثقافة الجنسية المنحرفة فهمه بما يتفق مع سلوكه وفهمه.
ومن هذا أيضا طعنهم في الإسلام بحديث أسيد بن حضير، فبينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاح بينا يضحكهم، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني أي مكني من القصاص فقال: اصطبر. قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله. رواه أبو داود، وصححه الألباني إسناده.
فهل يمكن لذي عقل وقلب سليم أن يسمع مثل هذا الحديث فيأتي في مخيلته مثل هذه المعاني النجسة؟ الجواب: لا. ولكن هؤلاء المغرضين الملوثين الغارقين في ردغة الشهوات الشاذة لا يمكن لأحدهم أن يتخلى عن فلسفة فرويد في التعامل مع الأحداث، فماذا نملك لهم.
والله أعلم.