الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن وصف السائل الكريم لهذه الأفكار بكونها غريبة، وأنه يشعر بالألم في رأسه والضيق الشديد في صدره لمجرد التفكير بها، هذا يعني أنها في الحقيقة مجرد وساوس لا تعبر عن عقيدة، وهذا مما يخفف الأمر، فإن الشك في حكمة الله إن صار اعتقادا للإنسان أفسد عليه دينه وإيمانه.
وأما الوسوسة فكراهية العبد لها وخوفه ونفوره منها علامة على الإيمان وصحة الاعتقاد، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلا عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ.
وراجع في ذلك الفتويين رقم: 7950 ، ورقم: 12300.
وقد سبق لنا التنبيه على سبل التخلص من الوسوسة وعلاجها في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالية أرقامها: 3086 ، 60628 ، 2081 ، 78372.
ولتعلم أيها السائل الكريم أن الله تعالى يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولا يظلم أحدا من خلقه مثقال ذرة، وأنه تعالى لم يخلق الكون لعبا، ولا العباد عبثا، ولن يتركهم سدى، فكل أفعاله تعالى منطوية على الحكمة التامة، وأن مبنى الدين على الإيمان بالغيب، وإثبات كل أنواع الكمال المطلق لله تعالى، ونفي كل أنواع النقص عنه سبحانه، والعقل الإنساني مهما أوتي من قوة وإدراك فهو محدود للغاية، فهو يجهل كثيرا من أسرار نفسه ـ فضلا عن الخلق والكون من حوله ـ فكيف يستطيع هذا الإنسان الضعيف الإحاطة بحكمة الله في قضائه وقدره وخلقه وأمره؟ فعليك أخي الكريم أن تشغل نفسك بما ينفعك ويقربك إلى الله تعالى، وأن تغلق عن نفسك منافذ هذه الوساوس الشيطانية، فالخير كل الخير في الرضا بقضاء الله تعالى والاشتغال بطاعته ومراضيه، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 118200.
ولتعلم كذلك أن الدنيا ليست بدار جزاء ووفاء، وإنما هي دار محنة وبلاء، وذلك أنها لم تخلق للدوام والبقاء، بل للزوال والفناء.
روى الطبري عن ابن جريج في قوله تعالى: كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة.
قال: أما الدنيا فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دار جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما. انتهـى.
فلا يصح أن يحكم على حال الدنيا بمعزل عن الآخرة، فإن الله تعالى لم يخلقها إلا ليبتلي بها عباده ويمتحنهم فيها فينظر كيف يعملون، كما قال سبحانه: وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا {هود:7}.
وقال سبحانه: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور{الملك: 2}.
وهذا الامتحان يكون بالأحكام الشرعية كالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بالأحكام القدرية، سواء ما نكره منها كالمصائب والشدائد، أو ما نحب كالأموال والأولاد، كما قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون{الأنبياء: 35}.
وعلى المؤمن أن يصبر ويرضى بأمر الله تعالى، وأن يبصر الرحمة من خلال البلاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وحسنه الألباني.
وقد سبق لنا الحديث عن موضوع الحكمة من خلق الدنيا وخلق الإنسان تفصيلا مع جواب بعض الشبهات المتعلقة بهذا الموضوع، في الفتاوى التالية أرقامها: 69481 ، 5492 ، 2855 ، 44950 ، 31767 ، 53994 ، 121592.
فاجتهد أخي الكريم في تقوية علاقتك بالله تعالى وترسيخ إيمانك به لتستطيع ردع الشيطان والتغلب على وسوسته، وقد سبق لنا بيان وسائل تقوية الإيمان في الفتوى رقم: 10800، واعلم أنك إن فعلت ذلك تبدل حالك وحصلت عندك السكينة والراحة النفسية، كما سبق بيانه في الفتوى 117997.
ولمزيد الفائدة يرجى الاطلاع على الفتوى رقم: 16790 .
والله أعلم.