الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن المزارعة من
الصورة الأولى صحيحة في الجملة؛ ولا يضرها كون البذر على العامل على القول الراجح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه: وأما المزارعة فإذا كان البذر من العامل أو من صاحب الأرض ففي ذلك روايتان عن أحمد، والصواب أنها تصح في ذلك كله...
وأما توفير الآلة فعلى صاحب الأرض، تخريجا على ما ذكره العلماء من أن عمل الدولاب يكون على صاحب الأرض.
قال ابن قدامة: وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل، كسد الحيطان، وإنشاء الأنهار، وعمل الدولاب ، وحفر بئره ، وشراء ما يلقح به. وعبر بعض أهل العلم عن هذا بعبارة أخرى فقال: كل ما يتكرر كل عام فهو على العامل ، وما لا يتكرر فهو على رب المال، وهذا صحيح في العمل. انتهى.
أما الوقود اللازم لتشغيل الآلة، فيحتمل أن يكون على صاحب الأرض، كما يحتمل أن يكون على العامل، وهو ما نرجحه، تخريجا على ما ذكره الفقهاء في ثور الدولاب وإطعامه ورعايته.
قال ابن قدامة في المغني : فأما البقرة التي تدير الدولاب فقال أصحابنا : هي على رب المال، لأنها ليست من العمل، فأشبهت ما يلقح به، والأولى أنها على العامل، لأنها تراد للعمل، فأشبهت بقر الحرث، ولأن استقاء الماء على العامل إذا لم يحتج إلى بهيمة فكان عليه، وإن احتاج إلى بهيمة كغيره من الأعمال. انتهى.
وهذا عند التشاح بينهما، أما إن تراضيا واتفقا على كون الوقود على صاحب الأرض، أو كان العرف جاريا بذلك، فلا حرج في ذلك على الراجح؛ لعموم حديث: والمسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما. رواه الترمذي.
قال ابن قدامة في المغني: وإن شرطا على أحدهما شيئا مما يلزم الآخر, فقال القاضي وأبو الخطاب: لا يجوز ذلك . فعلى هذا تفسد المساقاة , وهو مذهب الشافعي ; لأنه شرط يخالف مقتضى العقد فأفسده, كالمضاربة إذا شرط العمل فيها على رب المال. وقد روي عن أحمد ما يدل على صحة ذلك ; فإنه ذكر أن الجذاذ عليهما , فإن شرطه على العامل جاز . وهذا مقتضى كلام الخرقي في المضاربة ; لأنه شرط لا يخل بمصلحة العقد , ولا مفسدة فيه , فصح , كتأجيل الثمن في المبيع, وشرط الرهن والضمين والخيار فيه, لكن يشترط أن يكون ما يلزم كل واحد من العمل معلوما, لئلا يفضي إلى التنازع والتواكل, فيختل العمل, وأن لا يكون ما على رب المال أكثر العمل ; لأن العامل يستحق بعمله, فإذا لم يعمل أكثر العمل, كان وجود عمله كعدمه, فلا يستحق شيئا.
وقال الشيخ ابن عثيمين: لو قال قائل: أين في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا عليه كذا أو عليه كذا؟ نقول: المرجع في ذلك إلى العرف، وذلك على القاعدة المعروفة:
وكل ما أتى ولم يحدد * * * بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
فإذا كان العرف مطردا فبها ونعمت، وهذا هو المطلوب، ونمشي على ما جرى عليه العرف، وإذا لم يكن مطردا، وجب على كل منهما أن يبين للآخر ما عليه وما له حتى لا يقع نزاع؛ لأنه من المعلوم أن المتعاقدين عند أول الدخول في العقد، يكون كل واحد منهما مشفقا، وربما ينسى أو يتناسى بعض الشروط، ويقول: هذا هين، لكن نقول: هذا لا يجوز، فلا بد أن يكون الشيء واضحا بينا؛ لأنه ربما يحدث نزاع ثم لا نستطيع أن نؤلف بين الطرفين. الشرح الممتع.
وأما عن الصورة الثانية: فالأصل أن ما يتعلق بالحرث والحصاد إنما يكون على العامل، لكن إذا اتفق العامل وصاحب الأرض على اقتسام كلفة ذلك بينهما وتراضيا عليه فلا بأس بذلك على الراجح إن شاء الله؛ لما تقدم بيانه في الصورة الأولى.
وأما الصورة الأخيرة الواردة في السؤال فغير صحيحة عند جمهور العلماء؛ لأنها تنطوي على إجارة للأرض ببعض ما يخرج منها: بمعنى أن صاحب البذر يستأجر الأرض من صاحبها مقابل جزء من الزرع الخارج منها.
والمخرج الشرعي من هذا هو أن يأخذ صاحب البذر الأرض إجارة بمبلغ من المال لمدة معينة ويستعين بصاحبها لحرثها والعمل فيها بأجرة معينة، أو يقوم صاحب الأرض بشراء البذر ويقوم هو بالعمل وتلغى المزارعة إذن. وانظر الفتوى رقم: 18499.
والله أعلم.