السؤال
جواب: ومن قال بتحكيم العقل في هذا الباب يرد عليه من وجوه:
الأول: أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة، والتابعين، وأئمة الأمة من بعدهم، فما منهم أحد رجع إلى العقل في ذلك وإنما يرجعون إلى الكتاب والسنة، فيثبتون لله تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسله إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل.
لقد نوهت في معرض سؤالي السابق أنني لست من مدعي العلم، لكن هذا لا يمنع أن نسأل عما يختلج في صدورنا من شبهات وأن احتكار ذلك هو مصادرة للعقل السليم.
أليس فيما جاء عند النصارى من تقديس الثالوث والصليب والتي تعتبر الأسس التي تقوم عليها عقائدهم.. ألسنا نطالبهم بتحكيم العقل فيما يعتقدون؟ ألم يطالب الله تعالى في كتابه الكريم أهل الكتاب والكفار والمشركين وكل الناس جميعا بالرجوع إلى العقل لمعرفة الصواب من الخطأ؟ أنت أيها المفتي مع احترامي لك، هل آمنت بالله لأنك اجتهدت في معرفة وجوده وأثبت بالدليل القاطع صحة نبوة الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والرسالة التي جاء بها ثم أعلنت إيمانك، أم أنك وجدت نفسك في مجتمع مسلم وعائلة ملتزمة وتوفرت لك الظروف وأصبحت على ما أنت عليه الآن، أليس علم الرجال يقضي برد الحديث إذا لم تتوفر فيه الشروط اللازمة، أم أن كل ما جاء في الكتب يجب علينا التسليم به والانقياد دون أي اعتراض! أليس قوله تعالى: ليس كمثله شيء. يكفي لأن يقطع الطريق على كل من يريد تجسيم الذات الالهية، لقد أثبت الحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم أن لله أصابع خمسة، ويد حسية، دون أن نحاول الالتفاف وإيجاد المعاذير لهذا أو ذاك على حساب الدين الحنيف، الإسلام أكبر من كل الرموز والأشخاص، تعيبون على الناس تقديس الأشخاص وها أنتم تقدسونهم بطرق مختلفة، وتجعلون من أفعالهم أو سكوتهم حجة وكأنهم معصومون عن الخطأ أو أنبياء! هناك كثير من الأحاديث تسيء إلى شخص النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وإلى أزواجه وآله وتحيطونها بهالة من التقديس، علما أننا لا نرضى ما ورد فيها لأنفسنا أو غيرنا، كحديث الجواري اللاتي يغنين في حضرة الرسول، وحديث أن الرسول كان يأكل ما ذبح على النصب، وأنه كان يبول واقفا وغير ذلك كثير، يجب أن لا نقدس كل ما جاء، فلنقدس الذات الإلهية عن كل ما يسيء لها وشخص الرسول الأعظم عن كل ما لا يليق بخلقه العظيم؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالإسلام لا ينكر على أحد إعمال عقله وفكره، وطالما نادى القرآن بذلك وحث الناس عليه في مثل قوله تعالى: أفلا تعقلون. أفلا تتفكرون. ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. وغير ذلك، ولكن لا شك أن هذا فيما للعقل فيه مجال وللتفكير فيه مدخل، أما ما لا مدخل للعقل فيه كيف نطلب العلم به من جهة العقل.
من هنا نعلم أن ما أثبته الله سبحانه لنفسه وأثبته له رسوله الكريم الذي هو أعلم الخلق به لا سبيل إلى دفعه أو إنكاره بحجة عدم موافقته للعقل لأنه لا مجال للعقل في مثل هذا.
مع التنبيه على أن النصوص الشرعية لا تأتي بما تحيله العقول بل تأتي -أحيانا- بما تحتار فيه العقول لضعفها وعجزها، بخلاف ما تذكر من عقيدة التثليث وغيرها من العقائد الباطلة فإن فيها ما تحيله العقول قطعا وتنفر منه، ونحن قد أجبناك في جوابنا السابق في الفتوى رقم: 122213 بما فيه الكفاية وزيادة. وننصحك بمراجعة مصنفات أهل العلم التي تعنى بهذا الجانب مثل كتاب درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 69219.
وأما أحاديث غناء الجواري بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد سبق الحديث عنها في الفتويين: 60800، 19007. وبينا هناك أنه لا حرج في ذلك لأنه لم يكن فيه فحش، ولا موسيقى وكان الغناء من بنات صغيرات لا تخشى منهن الفتنة.
وأما حديث بوله صلى الله عليه وسلم قائما فهو ثابت في الصحيحين والسنن من حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سباطة قوم فبال قائما. وهذا لا حرج فيه ولم تبين لنا وجه تحرجك من ذلك خصوصا أنه لم يثبت مداومة النبي على ذلك، بل ثبت عدم مداومته عليه في مثل حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أحمد وأهل السنن أنها قالت: من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائما فلا تصدقوه. ومعلوم أن أم المؤمنين عائشة حكت ما رأته وهي من أقرب الناس إليه، ولكن مع هذا فإن المثبت مقدم على النافي فلا ينفي كلامها هذا رواية من حكى (بوله قائما) ولكن يؤخذ منه أن هذا لم يكن من شأنه المستمر. بحيث تطلع عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وأما أكل النبي مما ذبح على النصب فهذا لم يثبت في خبر صحيح بل الثابت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم لم يأكل ما ذبح على النصب، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه.
وقد حاول أعداء الإسلام رمي النبي الكريم بهذه التهمة استنادا إلى روايات منكرة وباطلة قد نص علماء الإسلام قديما وحديثا على بطلانها، وقد فندنا هذه الشبهة وذكرنا كلام أهل العلم عليها في صفحة المقالات بموقعنا فراجعها على هذا الرابط:
http//:www.islamweb.net/media/index/php?page=article&lang=A&id=143618.
والله أعلم.