السؤال
مشايخنا الكرام أتمنى منكم توجيهي للصواب في حال أخطأت في فهم الآية الكريمة، واعذروني فليس عندي أحد أتدارس معه وأسأله ليوجهني للصواب.
قال الله تعالى : (من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون). الاعراف 186
هل استنتاجي وشرحي لهذه الآية الكريمة صحيح بشكل عام؟
أن الله تعالى خلق الإنسان وخلق عمله قال الله تعالى:{والله خلقكم وما تعملون} ، أي كل فرد منا له طريقان، أعمال توصله للجنة، وأعمال توصله للنار، والعياذ بالله، وجعل له منزلين؛ مقعد في النار، ومقعد في الجنة، ثم الإنسان بإرادته يختار، والله يعلم ما سيؤول إليه عبده ويختار، قال الله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}. فمن اختار طريق الفلاح يهديه الله بإيمانه، ومن اختار طريق الباطل يضله الله تعالى ويتركه بضلاله بعد أن يبيين له الحق؛ لتكون عليه حجة ثم يختم على قلبه فلا يؤمن ولا يهديه أحد من بعد أن تركه الله تعالى في طغيانه يعمه، ثم يجازيه يوم القيام بعد أن قامت عليه الحجة.
هل فهمي العام للآية الكريمة والإيمانيات صحيح ؟
وهل معنى"من يضلل الله فلا هادي له " أي بعد أن يبين الله تعالى للعبد الحق والهدى وتقوم عليه الحجة، ثم يختار بنفسه الكفر يختم الله على قلبه، ويتركه في ضلاله، ولن يهديه أحد بعد أن تركه الله تعالى؟ هل شرحي للآية صحيح ؟ وهل كل آية بنفس السياق مثلا كهذه الآية الكريمة: {من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون}. تكون بنفس المعنى؟
قرأت التفاسير ولاحظت والله أعلم أن العلماء رحمهم الله فسروها بشكل مبسط تماشيا مع موقعها في السورة وعند بحثي لتفاسير أخرى وآيات أخرى لاحظت أن الآيات القرآنية تشرح بعضها بعضا، وهذا ما استنتجته بعد قراءتي لعدة آيات وأحاديث وما ورد في هذا الرابط
http://www.saaid.net/bahoth/36.htm
في انتظار تصحيح الخطأ لي وتوجيهي للصحيح إن شاء الله.
أسأل الله أن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا ويزيدنا علما.
الإجابــة
فنشكر لك أيتها الأخت الكريمة حرصك على تعلم أمور دينك، ونسأل الله تعالى أن يزيدك علما وفقها.
ولمزيد الإيضاح نقول: أما مسألة بيان الحق والهدى وإقامة الحجة فلا شك أن الله لا يعاقب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه. قال تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم .{التوبة:115}.
قال ابن القيم عند كلامه على مراتب الهداية: المرتبة السادسة: مرتبة البيان العام، وهو تبيين الحق وتمييزه من الباطل بأدلته وشواهده وأعلامه بحيث يصير مشهودا للقلب كشهود العين للمرئيات. وهذه المرتبة هي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا ولا يضله إلا بعد وصوله إليها. قال الله تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم. {التوبة:115}. فهذا الإضلال عقوبة منه لهم حين بين لهم فلم يقبلوا ما بينه لهم ولم يعملوا به، فعاقبهم بأن أضلهم عن الهدى وما أضل الله سبحانه أحدا قط إلا بعد هذا البيان.
وإذا عرفت هذا عرفت سر القدر وزالت عنك شكوك كثيرة وشبهات في هذا الباب، وعلمت حكمة الله في إضلاله من يضله من عباده، والقرآن يصرح بهذا في غير موضع كقوله: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.{الصف: 5}، وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم. {النساء: 155}. فالأول: كفر عناد، والثاني: كفر طبع، وقوله: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون. {الأنعام: 110}. فعاقبهم على ترك الإيمان به حين تيقنوه وتحققوه بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له. فتأمل هذا الموضع حق التأمل فإنه موضع عظيم. اهـ من مدارج السالكين.
وعلى ذلك، فمثل هذا يقال في كل آية وردت في شأن الإضلال وإزاغة القلوب وصرفها والطبع عليها ونحو ذلك.
وأما مسألة اختيار العبد وإرادته، فلا شك أن العبد له مشيئة وله إرادة وله اختيار، إلا أن مشيئته وإرادته واختياره تابعة لمشيئة الله وإرادته واختياره. قال تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما. {الإنسان:30}، ومع ذلك أيضا فإن العبد ليس مجبرا وليس كالريشة في مهب الريح، وإنما هو مخير ومسير معا كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 26413، وما أحيل عليه فيها. فهو ليس مخيرا بإطلاق كما أنه ليس مسيرا بإطلاق، وكل ذلك بقدر أزلي قدره الله قبل خلق الإنسان، وهذا القدر الأزلي إنما هو وفق حكمته سبحانه، فهو أعلم بمن هو أهل للمن عليه بالهداية، ومن هو مستحق الإضلال، وهو الحكيم العليم. ومع أنه سبحانه، لا يسأل عما يفعل، فهو أيضا إنما يضل من يشاء بعدله كما أنه يهدي من يشاء بفضله، فأفعاله دائرة بين الفضل والعدل، ولا يظلم ربك أحدا.
قال ابن القيم رحمه الله : وهذا - يعني: الظلم - قد نزه الله نفسه عنه في غير موضع من كتابه، وهو سبحانه وإن أضل من شاء وقضي بالمعصية والغي على من شاء، فذلك محض العدل فيه؛ لأنه وضع الإضلال والخذلان في موضعه اللائق به، كيف ومن أسمائه الحسني: العدل، الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل وأنزل الكتب وأزاح العلل ومكن من أسباب الهداية والطاعة بالأسماع والأبصار والعقول، وهذا عدله، ووفق من شاء بمزيد عناية وأراد من نفسه أن يعينه ويوفقه، فهذا فضله، وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلي بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه من نفسه أن يوفقه فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله، وهذا نوعان: أحدهما: ما يكون جزاء منه للعبد على إعراضه عنه وإيثار عدوه في الطاعة والموافقة عليه وتناسى ذكره وشكره، فهو أهل أن يخذله ويتخلى عنه. والثاني: أن لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه أنه لا يعرف قدر نعمة الهداية ولا يشكره عليه ولا يثني عليه بها ولا يحبه فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله. قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين. {الأنعام: 53}. وقال: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم .{الأنفال: 23} فإذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية كان ذلك محض العدل، كما إذا قضى على الحية بأن تقتل، وعلى العقرب وعلى الكلب العقور كان ذلك عدلا فيه، وان كان مخلوقا على هذه الصفة. اهـ من الفوائد.
والله أعلم.