الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن نسخ القرآن بعضه ببعض واقع بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، كما وقع في الرسالات السابقة، وعلى هذا عامة فقهاء المسلمين سلفا وخلفا، فلا يلتفت إلى شذوذ من شذ بعد ذلك.
ومن أدلة وقوع النسخ في القرآن الكريم قوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها او مثلها. فهذه الآية صريحة في وقوع النسخ، وقوله تعالى: وإذا بدلنآ آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر { النحل : 101 } قالوا : إن هذه الآية واضحة كل الوضوح في تبديل الآيات والأحكام ، والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع : إما التلاوة ، وإما الحكم ، وكيفما كان فإنه رفع ونسخ.
وقوله تعالى: سيقول السفهآء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ... { البقرة : 142} ثم قال تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام { البقرة : 144} فقد كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس ، ثم نسخ ذلك وأمروا بالتوجه إلى المسجد الحرام .
* أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا في قوله جل ذكره: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول { البقرة : 240 } ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا { البقرة : 234 }
* أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة في قوله تعالى: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين {الأنفال : 65 } ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين { الأنفال : 66 } فهذه الآيات وأمثالها في القرآن كثير تدل على وقوع النسخ فلا مجال للإنكار بحال من الأحوال (تفسير آيات الأحكام)
قال العلامة القرطبي : معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة ، لا يستغني عن معرفته العلماء ، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء ، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال : دخل علي رضي الله عنه المسجد فإذا رجل يخوف الناس ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ، فقال : ليس برجل يذكر الناس! لكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ ! فقال : لا ، قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي رواية أخرى : أعلمت الناسخ والمنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت!. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما...
وقال أيضا: أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة.
وقال الجصاص: زعم بعض المتأخرين من غير أهل الفقه أنه لا نسخ في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب، قال: لأن نبينا عليه السلام آخر الأنبياء وشريعته ثابتة باقية إلى أن تقوم الساعة، وقد كان هذا الرجل ذا حظ من البلاغة وكثير من علم اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد غير مظنون به غير ظاهر أمره، ولكنه بعد من التوفيق بإظهار هذه المقالة، إذ لم يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه ونقل ذلك إلينا نقلا لا يرتابون به ولا يجيزون فيه التأويل، كما قد عقلت أن في القرآن عاما وخاصا ومحكما ومتشابها، فكان دافع وجود النسخ في القرآن والسنة كدافع خاصه وعامه ومحكمه ومتشابهه، إذ كان ورود الجميع ونقله على وجه واحد فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أمورا خرج بها عن أقاويل الأمة مع تعسف المعاني واستكراهها، وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك . وأكثر ظني فيه أنه إنما أتى به من قلة علمه بنقل الناقلين لذلك واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ونقلته الأمة ..." أحكام القرآن
وبذلك يتضح أن القول بعدم نسخ القرآن لبعضه قول لا يعتد به ولا يعول عليه.
وقد سبق بيان أقسام النسخ في الفتوى رقم: 13919، كما سبق بيان وجوه الحكمة من ذلك في الفتوى رقم: 46644 والفتوى رقم: 95777، وبخصوص آية الرجم فقد سبق الكلام عليها بما فيه كفاية ومقنع في الفتوى رقم:18663، والفتوى رقم: 98171، وما أحيل عليه فيهما.
وننصحك بطلب العلم وتحصين نفسك به لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن، كما ننصحك بأخذ العلم عن أهله الموثوقين الذين يسيرون على درب السلف الصالح، والابتعاد عن أصحاب الشبهات والشذوذات، والقنوات التي لا تلتزم بضوابط الشرع.
وانظر الفتوى رقم: 62960، والفتوى رقم: 43954، وما أحيل عليه فيهما.
والله أعلم.