الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمقتضى هذا الكلام هو قصر وصف الفسق على ترك الواجبات بعدم امتثال الأمر، وقصر وصف العصيان على فعل المحرمات بارتكاب النهي. وهذا القصر ليس بصحيح، فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده من جهة، ومن جهة أخرى فقد جاء استعمال القرآن لهذين اللفظين على غير مقتضى هذا القصر المزعوم، ومن أظهر ذلك وصف إبليس بالمعصية، كما في قوله تعالى: يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا {مريم: 44} وبذلك أيضا وصف شيطان من شياطين الإنس وهو فرعون، كما في قوله سبحانه: فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا {المزمل: 16} وقوله: فكذب وعصى {النازعات: 21} وقوله: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين {يونس: 91}.
كما أطلق وصف الفسق في جانب المنهيات أيضا، كما في قوله تعالى: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون {الأعراف: 163} وقوله في الذين يرمون المحصنات وقد نهوا عن ذلك: وأولئك هم الفاسقون {النور: 4}.
وأما كلام الشيخ الشعراوي فالذي اطلعنا عليه منه على خلاف ما نسب إليه هنا، ومن ذلك قوله في تفسير سورة البقرة: إياك أن ترد الأمر على الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت لا تصلي فلا تقل: وما فائدة الصلاة؟! وإذا لم تكن تزكي، فلا تقل: تشريع الزكاة ظلم للقادرين! وإذا كنت لا تطبق شرع الله، فلا تقل: إن هذه الشريعة لم تعد تناسب العصر الحديث! فإنك بذلك تكون قد كفرت والعياذ بالله. ولكن قل: يا ربي إن فرض الصلاة حق. وفرض الزكاة حق. وتطبيق الشريعة حق. ولكنني لا أقدر على نفسي، فارحم ضعفي يا رب العالمين. إن فعلت ذلك تكن عاصيا فقط ، إن الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس. أن آدم اعترف بمعصيته وذنبه. ولكن إبليس رد الأمر على الآمر. فيكون آدم قد عصى، وإبليس قد كفر اهـ.
وقوله: ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟ نقول: إبليس عصى وجاء بحيثية رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة اهـ.
فسمى كلا الفعلين معصية، وهذا هو الصواب، أن مخالفة الله تعالى في أمره أو نهيه سواء من حيث الفسوق والعصيان. قال الكفوي في (الكليات): الفسق: الترك لأمر الله والعصيان والخروج عن طريق الحق والفجور، وهو في القرآن على وجوه: بمعنى الكفر نحو { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا }، والمعصية نحو { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين }، والكذب نحو { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } و { إن جاءكم فاسق بنبأ }، والإثم نحو { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم }، والسيئات نحو { ولا فسوق ولا جدال في الحج } اهـ.
وليس معنى ذلك أنه لا فرق بين الفسق والمعصية، وإنما نعني إبطال الفرق المذكور في السؤال، وإلا فبينهما فرق بلا شك، ولذلك صح عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان {الحجرات: 7}
والفرق الصحيح بين الفسوق والعصيان، إنما هو من حيث الرتبة وعظمة الجرم وكبره، فالفسق أشد من مطلق المعصية، ولذلك نص كثير من المفسرين على أن المراد بالفسوق الكبائر، وبالعصيان الصغائر، وقال العسكري في (الفروق اللغوية): الفسق هو الخروج من طاعة الله بكبيرة اهـ.
وفي (الفروق) للقرافي: الذنوب منقسمة إلى صغائر وكبائر، وهذا هو الأظهر من جهة الكتاب والسنة والقواعد، أما الكتاب فقوله تعالى { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } فجعل الكفر رتبة والفسوق رتبة ثانية والعصيان يلي الفسوق وهو الصغائر، فجمعت الآية بين الكفر والكبائر والصغائر وتسمى بعض المعاصي فسقا دون البعض اهـ.
وعلى ذلك نص جماعة من الأصوليين، كالزركشي في (البحر المحيط) والشوكاني في (إرشاد الفحول).
وقد سبق لنا في الفتويين رقم: 57909، 32021. أن الفاسق كما عرفه أهل العلم هو: كل من ارتكب كبيرة ولم يتب منها، أو أصر وداوم على فعل صغيرة.
والله أعلم.