السؤال
هناك تفصيلات وفروق تعتبر كبيرة بين الفقهاء في أركان الصلاة وواجباتها، كاختلاف عدد كل منهما -الواجبات والأركان- حسب كل مذهب، ومثال ذلك النية عند المالكية من الأركان وعند الحنابلة من شروط الصحة، أو الصلاة الإبراهيمية من الأركان عند الحنابلة ونجدها من السنن والمندوبات عند المالكية وغير ذلك. فلو أمكن التفصيل في اجتهادات الفقهاء في هذه المسائل وعلى ماذا استدلوا في تقسيماتهم؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فتفصيل مذاهب الأئمة ومآخذهم في ما يجب في الصلاة وما يسن فيها أمر يطول جدا، غير أننا نشير إلى مقاصد مهمة في هذه المسألة يحصل بها التصور الإجمالي لمآخذ العلماء ومذاهبهم، وأما التفصيل فيرجع إليه في كتب الفروع والخلاف كمجموع الإمام النووي، والمغني للموفق ابن قدامة رحم الله الجميع.
فاعلم أن العلماء قسموا أفعال الصلاة إلى واجبات وسنن، وخالف في هذا التقسيم -الذي هو مذهب الجمهور- فقهاء الحنابلة، فقسموا أفعال الصلاة إلى ثلاثة أقسام، أركان وواجبات وسنن، والأركان عندهم هي ما يسميه الجمهور بالواجبات، وهي ما لا يسقط عمدا ولا سهوا، وأما الواجبات عندهم فتسقط بالنسيان والجهل ويجبرها سجود السهو، وما عدوه من أركانها قد عده الشافعية والمالكية من واجباتها في الجملة، وأما ما عدوه من واجباتها وهي عندهم ثمانية فهو سنة عند الجمهور لا يؤثر تركه ولو عمدا في صحة الصلاة، كتكبيرات الانتقال وتسبيح الركوع والسجود ونحو ذلك، وإنما حملهم على التفريق بين الأركان والواجبات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسيء صلاته بإعادة الصلاة حين ترك بعض أركانها، وقام هو عن التشهد الأول سهوا فلم يرجع إليه وإنما جبره بسجود السهو، فألحقوا بالتشهد الأول ما قام الدليل على الأمر به ولم ينهض للدلالة على ركنيته، وهذا سياق الأركان والواجبات عندهم كما عدها صاحب زاد المستقنع: أركانها : القيام والتحريمة والفاتحة والركوع والاعتدال عنه والسجود "على الأعضاء السبعة", "والاعتدال عنه", والجلوس بين السجدتين والطمأنينة في الكل والتشهد الأخير وجلسته والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيه، والترتيب والتسليم.
وواجباتها: التكبير غير التحريمة والتسميع والتحميد وتسبيحتا الركوع والسجود، وسؤال المغفرة مرة مرة ويسن ثلاثا، والتشهد الأول وجلسته. وما عدا الشرائط والأركان والواجبات المذكورة سنة. انتهى.
وعند الحنفية فرق آخر بين الفرض والواجب، فالفرض أو الركن عندهم هو ما ثبت الأمر به بدليل قطعي، وقد عد الكاساني أركان الصلاة عندهم فجعلها ستة فقط، وهي القيام والركوع والسجود والقراءة ولا تعين الفاتحة بل قراءتها واجبة لا فرض، والقعدة الأخيرة للتشهد والانتقال من ركن لآخر، ولم يعدوا تكبيرة الإحرام من الأركان بل عدوها من الشروط ولهذا جوزوا إدخال النفل على الفرض، والفرق بين الشرط والركن معلوم وهو أن الشرط ما كان خارجا عن الماهية كالطهارة للصلاة، والركن ما كان داخلا فيها كالركوع والسجود، وأما الواجبات عندهم -وهي التي من تركها عمدا كان مسيئا ولم تبطل صلاته- فإن تركها سهوا سجد للسهو فقد عدها الكاساني ستة أيضا، ومنها قراءة الفاتحة.
قال الكاساني: فصل: أما الواجبات الأصلية في الصلاة فستة منها قراءة الفاتحة والسورة في صلاة ذات ركعتين وفي الأوليين من ذوات الأربع والثلاث حتى لو تركهما أو أحدهما فإن كان عامدا كان مسيئا وإن كان ساهيا يلزمه سجود السهو وهذا عندنا، وقال الشافعي قراءة الفاتحة على التعيين فرض. انتهى.
ومنها الجهر في موضع الجهر والمخافتة في موضع المخافتة، ومنها الطمأنينة في الركوع والسجود.
قال الكاساني: ومنها الطمأنينة والقرار في الركوع والسجود وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف الطمأنينة مقدار تسبيحة واحدة فرض وبه أخذ الشافعي حتى لو ترك الطمأنينة جازت صلاته عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف والشافعي لا تجوز. انتهى.
ومنها القعدة الأولى للتشهد، ومنها التشهد في القعدة الأخيرة، ومنها مراعاة الترتيب فيما شرع مكررا، وما عدا ذلك سنة عندهم، ومذهب المالكية والشافعية أن أفعال الصلاة تنقسم إلى واجبات وسنن، والواجبات في الصلاة خمسة عشر كما عدها خليل في مختصره، وضبط الدردير في شرحه المذهب في الفرق بين الأركان والسنن فقال رحمه الله: "(تنبيه) الصلاة مركبة من أقوال وأفعال، فجميع أقوالها ليست بفرائض إلا ثلاثة: تكبيرة الاحرام والفاتحة والسلام، وجميع أفعالها فرائض إلا ثلاثة: رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام، والجلوس للتشهد، والتيامن بالسلام. انتهى.
وعد النووي الشافعي أركان الصلاة فجعلها ثلاثة عشر هي: النية وتكبيرة الإحرام والقيام في فرض القادر والقراءة وتتعين الفاتحة والبسملة منها والركوع والاعتدال قائما والسجود والجلوس بين سجدتيه مطمئنا في ذلك كله والتشهد وقعوده والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والسلام وترتيب الأركان.
وعمدة الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة في القول بفرضية أو ركنية ما ذهبوا إلى ركنيته وسماه أكثرهم واجبا -والخلاف اصطلاحي فلا مشاحة فيه- عمدتهم في إيجابه هو حديث المسيء في صلاته، فقالوا بوجوب ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم به فيه، وبه قطعوا برد مذهب الحنفية في عدم ركنية الطمأنينة في الأركان، وقالوا بوجوب أشياء لم ترد في حديث المسيء، وهي التي قام الدليل عند القائل بها على وجوبها كالتشهد الأخير، فإن ابن مسعود قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد، فدل بوضوح على أنه مفروض وأن تعمد تركه مبطل للصلاة، ومنها التسليم من الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم: وتحليلها التسليم. فدل على أنه لا يتحلل من الصلاة إلا بالتسليم، ولفظ حديث المسيء الذي هو عمدة ما يجب في الصلاة كما أخرجه الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم: دخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام فقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما كان صلى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل. حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا علمني قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها. وفي رواية: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر.
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث وبيان أن العلماء استدلوا به على وجوب ما أمر به المسيء والجواب عن غير ذلك من الواجبات التي لم يؤمر بها: هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة وليعلم أولا أنه محمول على بيان الواجبات دون السنن، فإن قيل لم يذكر فيه كل الواجبات فقد بقي واجبات مجمع عليها ومختلف فيها فمن المجمع عليه النية والقعود في التشهد الأخير وترتيب أركان الصلاة، ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه والسلام وهذه الثلاثة واجبة عند الشافعي رحمه الله تعالى، وقال بوجوب السلام الجمهور، وأوجب التشهد كثيرون وأوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع الشافعي الشعبي وأحمد بن حنبل وأصحابهما، وأوجب جماعة من أصحاب الشافعي نية الخروج من الصلاة، وأوجب أحمد رحمه الله تعالى التشهد الأول وكذلك التسبيح وتكبيرات الانتقالات. فالجواب أن الواجبات الثلاثة المجمع عليها كانت معلومة عند السائل فلم يحتج إلى بيانها، وكذا المختلف فيه عند من يوجبه يحمله على أنه كان معلوما عنده، وفي هذا الحديث دليل على أن إقامة الصلاة ليست واجبة، وفيه وجوب الطهارة واستقبال القبلة وتكبيرة الإحرام والقراءة، وفيه أن التعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام ووضع اليد اليمنى على اليسرى وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ وغير ذلك مما لم يذكره في الحديث ليس بواجب إلا ما ذكرناه من المجمع عليه والمختلف فيه، وفيه دليل على وجوب الاعتدال عن الركوع والجلوس بين السجدتين ووجوب الطمأنينة في الركوع والسجود والجلوس بين السجدتين، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور ولم يوجبها أبو حنيفة رحمه الله تعالى وطائفة يسيرة، وهذا الحديث حجة عليهم وليس عنه جواب صحيح. انتهى.
وأما الاختلاف في النية هل هي شرط أو ركن؟ فهو خلاف في التسمية مع الاتفاق على أن النية لا بد منها، فمن جوز تقدم النية على الصلاة بالزمن اليسير عدها من الشروط، ومن أوجب اقترانها بالتكبير عدها من الأركان، وفي المسألة تفصيلات كثيرة لا تتسع لبسطها هذه الفتوى المختصرة فليرجع في معرفتها إلى المطولات.
والله أعلم.