0 390

السؤال

لماذا يقول البعض بتسلسل الحوادث في الماضي مع أن هذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يكن شيء غيره. ونقل ابن حزم الإجماع على أن الله كان أزلا ولا شيء معه، ثم خلق الخلق، بل إن العلماء حكموا بكفر من قال بقدم شيء من العالم أو المخلوقات؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فبداية ننبه السائل الكريم على أن مسألة تسلسل الحوادث مسألة وعرة دقيقة المأخذ، وقد فارق الحق فيها أكابر النظار فضلا عن غيره، ومن الخطأ بمكان أن يدعي مدع ـ كائنا من كان ـ أن إثبات تسلسل الحوادث في الماضي مخالف للكتاب والسنة والإجماع!!.

ومن مضلات هذه المسألة أن تصوير أصلها مشكل، وتعزب عنه أكثر العقول، وذلك أن العقل البشري عاجز عن تصور اللانهاية، ومع ذلك يجب عليه أن يتعامل معها باعتبارها حقيقة، فإن لم يتكلف في تصورها، فلا يتعسف بنفيها. ومما يقرب ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: الأزل ليس شيئا محدودا يقف عنده العقل، بل ما من غاية ينتهي إليها تقدير الفعل إلا والأزل قبل ذلك بلا غاية محدودة، حتى لو فرض وجود مدائن أضعاف مدائن الأرض في كل مدينة من الخردل ما يملؤها، وقدر أنه كلما مضت ألف ألف سنة فنيت خردلة - فني الخردل كله والأزل لم ينته، ولو قدر أضعاف ذلك أضعافا لا ينتهي.

فما من وقت يقدر إلا والأزل قبل ذلك، وما من وقت صدر فيه الفعل إلا وقد كان قبل ذلك ممكنا، وإذا كان ممكنا فما الموجب لتخصيص حال الفعل بالخلق دون ما قبل ذلك فيما لا يتناهى؟ وأيضا فالأزل معناه عدم الأولية، ليس الأزل شيئا محدودا، فقولنا: لم يزل قادرا، بمنزلة قولنا: هو قادر دائما، وكونه قادرا وصف دائم لا ابتداء له، فكذلك إذا قيل لم يزل متكلما إذا شاء، ولم يزل يفعل ما شاء، يقتضي دوام كونه متكلما وفاعلا بمشيئته وقدرته. اهـ.

ولذلك يقول الرياضيون: إنك لو افترضت رقما هو عبارة عن واحد وعلى يمينه من الأصفار ما لو جعلت الأرض ورقة واحدة لوصل خط الأصفار إلى نهايتها، بل لو ضاعفت الورقة مليارات الأضعاف، ثم قارنت هذا الرقم باللانهاية، لكانت نسبته هو والرقم 1 سواء.

ومن إشكاليات هذه المسألة أيضا أن كثيرا ممن تكلم فيها لا يفرق بين نوع الحوادث وبين أعيانها وأفرادها، فإثبات قدم النوع هو مقتضى إثبات الفعل والإرادة والكلام لله تعالى أزلا، بل هو مقتضى الحياة، لأن كل حي فاعل بحسب ما يليق به من أنواع الفعل، والله تعالى حي قيوم لا أول لذلك باتفاق المسلمين، فلزم إثبات فعله أزلا.

وأهل السنة مجمعون على إثبات نوع كلامه أزلا وإن كانت آحاد كلامه – مثل تكليمه لموسى عليه السلام – حادثة، ولهذا سهل عليهم إثبات نوع الحوادث أزلا؛ لأن فعله تعالى يكون بكلامه: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس: 82].

فثبت له تعالى نوع الكلام ونوع الخلق أزلا كما ثبت له الحياة أزلا. فهو تعالى لم يزل ولا يزال يخلق شيئا بعد شيء أو عالما بعد عالم بلا أول لذلك في الماضي ولا آخر للمستقبل، فإن عسر عليك فهم هذا فاعتبره بما لا يزال يخلق في الجنة من أنواع النعيم الذي لا ينتهي أبدا، وما قدرته مستقبلا قدره ماضيا، جاعلا ذلك في النوع لا في الأفراد.

وكم كنا نود أن يكون المجال فسيحا لتحرير هذه المسألة المهمة التي شنع بها كثير من الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية، دون أن يقرؤوا كلامه، أو لقصر أفهامهم عن إدراك معناه. ولكن مجال الفتوى لا يتسع لبسط الكلام على وجهه اللائق، ولذلك سنكتفي بإحالة السائل على مصدرين نقيين، تناولا هذه المسألة ببحث علمي رصين، وسيجد فيهما السائل الرد على دعوى الإجماع المزعوم، وبيان أن القول بإمكان حوادث لا أول لنوعها هو مقتضى أدلة الكتاب والسنة، وأن ذلك لا يستلزم القول بقدم العالم، كما سيجد فيها شرحا وافيا لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء.

وهذان المصدران هما:

1ـ رسالة الدكتوراه للشيخ/ عبد الله بن صالح الغصن، وهي بعنوان (دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية عرض ونقد). فالفصل الثالث منه عن دعوى القول بقدم العالم، وفيه سيجد السائل المباحث المتعلقة بمعتقد أهل السنة في إمكان حوادث لا أول لها. وتعريف التسلسل وأقسامه. وبيان معنى الصفات الاختيارية. وشرح حديث عمران بن حصين. ومناقشة دعوى الخصوم أن قول شيخ الإسلام بإمكان حوادث لا أول لها يستلزم القول بقدم العالم.

2ـ كتاب الأخت الفاضلة/ كاملة الكواري: (قدم العالم وتسلسل الحوادث بين ابن تيمية والفلاسفة، مع بيان من أخطأ في المسألة من السابقين والمعاصرين) وقد راجعه وقدم لـه الدكتور/ سفر الحوالي. وذكر في مقدمته خلاصة مفيدة لهذه المسألة.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة