حجة من لم يعذر من مات على غير الإسلام ولم تبلغه الدعوة

0 515

السؤال

سيدي: ذكرتم في معرض جوابكم بالفتوى رقم: 39870 عن سؤال : مصير الذين سمعوا بالإسلام ولم يعرفوا عنه شيئا؟ ما يلي : وأما سؤالك عن مصير الذين سمعوا بالإسلام ولم يعرفوا عنه شيئا؟ فجوابه: أن من مات على غير الإسلام ولم تكن بلغته الدعوة على وجهها فإن مآله في الآخرة موضع نظر بين أهل العلم، وقد ذكر أقوالهم الدكتور الصاوي في كتابه الثوابت والمتغيرات، فقال: فمنهم من جزم بعدم عذره وأنه معذب لا محالة، ومنهم من جزم بعذره وأنه لا يعذب حتى تقام عليه الحجة الرسالية.
سؤالي هو : ما هي حجة ودليل أهل العلم (آية قرآنية أو حديث) الذين جزموا بعدم عذره وأنه معذب لا محالة، وكيف هو فهمهم لهذا الدليل؟ وكيف رد عليهم أهل العلم الذين جزموا بعذره وأنه لا يعذب حتى تقام عليه الحجة الرسالية؟ أنا أدين وأعتقد ما جزم به ابن تيمية وابن القيم وغيرهم رحم الله جميع المسلمين، لأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة، فكيف يكون من أهل العلم من قال بأنه لا عذر لمن لم تصله الدعوة على وجهها الصحيح وأنه معذب لا محالة؟ !! وهل علي إثم في أن أسأل هذا السؤال؟وجزاكم الله خيرا ولا تنسونا من صالح دعائكم بحسن الخاتمة والثبات.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا إثم على السائل الكريم ولا غيره من المسلمين الذين يسألون عما أشكل عليهم في أمر دينهم، بل هذا مما يحمد عليه صاحبه، حيث امتثل أمر الله تعالى القائل: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {النحل: 43}

 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني. والعي هو الجهل. وقال ابن عبد البر في (التمهيد): يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من أمر دينه أن يسأل عنه اهـ.

وأما بخصوص ما سألت عنه، فقد عقد ابن القيم في آخر كتاب (طريق الهجرتين) فصلا عن مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها، وهم ثمان عشرة طبقة، وذكر الطبقة الرابعة عشرة، وهم: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان. وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذى لا يعقل شيئا ولا يميز، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئا أبدا، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئا.

فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافا كثيرا، والمسألة التي وسعوا فيها الكلام هي مسألة أطفال المشركين ... وللناس فيهم ثمانية مذاهب.

ثم ذكر ـ رحمه الله ـ سبعة مذاهب وذكر ما يستدل به لكل مذهب، وناقش هذه الأدلة، ثم قال: المذهب الثامن: أنهم يمتحنون في عرصة القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله النار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار. وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها. وتتوافق الأحاديث اهـ.

وعزا المذهب الثاني ـ وهو كونهم في النار ـ لجماعة من المتكلمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضي نصا عن أحمد.

وذكر من أدلتهم حديث عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال: هم من آبائهم. فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ قال: من آبائهم. قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. رواه أبو داود. وقال الألباني: صحيح الإسناد.

وذكر منها أيضا أن خديجة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هما في النار. فلما رأى الكراهية في وجهها قال: لو رأيت مكانهما لأبغضتهما. قالت: يا رسول الله فولدي منك؟ قال: في الجنة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار. رواه أحمد. وأعله ابن القيم، وضعفه محقق المسند.

ثم ذكر ابن القيم غير ذلك من الأحاديث الضعيفة التي يكفي ضعفها في ردها، وأما حديث عائشة فقال عنه:  ففي هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوه به، فهؤلاء مع آبائهم، ولا يقتضى أن كل واحد من الذرية مع أبيه في النار، فإن الكلام في هذا الجنس سؤالا وجوابا، والجواب يدل على التفصيل، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يدل على أنهم متباينون في التبعية، بحسب نياتهم في معلوم الله فيهم. بقي أن يقال: فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرها عليه السلام فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه في الدنيا، وهو الذي فهمته عائشة، ولا ينفى هذا أن يلحقوا بهم بأسباب أخر يمتحنهم بها في عرصات القيامة كما سيأتي بيانه إن شاء الله. فحينئذ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه في الدنيا، وعائشة رضى الله عنه إنما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء، وأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملوه، ولم يقل لها: إنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم. وهذا ظاهر بحمد الله لا إشكال فيه اهـ.

ومما يمكن أن يستدل به أصحاب هذا المذهب، قول الله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين*أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون  {الأعراف:173،172}

 قال السعدي: أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن {و} حين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم {أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} أي: قررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم. قالوا: بلى قد أقررنا بذلك، فإن الله تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم. فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة، ولهذا { قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } أي: إنما امتحناكم حتى أقررتم بما تقرر عندكم، من أن الله تعالى ربكم، خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقروا بشيء من ذلك، وتزعمون أن حجة الله ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون. فاليوم قد انقطعت حجتكم، وثبتت الحجة البالغة لله عليكم. أو تحتجون أيضا بحجة أخرى، فتقولون: { إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم. { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } فقد أودع الله في فطركم، ما يدلكم على أن ما مع آبائكم باطل، وأن الحق ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءكم، ويعلو عليه. نعم، قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالين، ومذاهبهم الفاسدة ما يظنه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه، عن حجج الله وبيناته، وآياته الأفقية والنفسية، فإعراضه عن ذلك وإقباله على ما قاله المبطلون، ربما صيره بحالة يفضل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات اهـ.

ومما يمكن أن يستدل لهم به من السنة، عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: من مات يشرك بالله شيئا دخل النار. متفق عليه. وعموم حديث ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان، فأين هو؟ قال: في النار. قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال يا رسول الله: فأين أبوك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما مررت بقبر مشرك فبشره بالنار. رواه ابن ماجه، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات اهـ. وصححه الألباني.

وقال ابن القيم في (زاد المعاد): من مات مشركا فهو في النار وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم واستبدلوا بها الشرك، وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به، وقبحه والوعيد عليه بالنار لم يزل معلوما من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطر عباده عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل والله أعلم اهـ.

وعلى أية حال، فليس الغرض هو ترجيح هذا القول، بل المراد بيان حجة من ذهب هذا المذهب من أهل العلم، وأما الراجح فهو ما ذكره السائل، وهو الموافق لقول الله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {الإسراء: 15}

وقوله سبحانه: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما {النساء: 165} كما تقدم بيانه في الفتوى المشار إليها في السؤال برقم: 39870.

وأخيرا ننبه على أن أحدا من أهل العلم لم يدع العصمة لنفسه ولا لغيره من إخوانه، فكل منهم يؤخذ من قوله ويترك، ومع ذلك فهو دائرون بين الأجر والأجرين بحسب الإصابة أو الخطأ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر. متفق عليه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة