الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالله تعالى هو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فهناك من الأفكار والمناهج والمسائل ما تضيق بها الصدور، وتستغربها العقول، وتقشعر منها الجلود؛ أسفا على اختلاط المفاهيم، واضطراب الموازين، والتباس الحق بالباطل. فلنبدأ مع الأخ السائل الكريم بكلامه في آخر سؤاله، حيث ذكر ـ وفقه الله ـ أن الله تعالى وهب الإنسان العقل ليميز بين الحق والباطل، وأنه أنزل القرآن ليكون كلمة الفصل في جميع الأمور، وأرسل الرسل لإزالة اللبس، وأقام أتباعهم من أوليائه الصالحين ليقتدى بهم.
ولا شك أن هذا الذي ذكره السائل من هذه المعاني المهمة، هو الصواب المحض، وأن ما خالفه كان فيه من الباطل بقدر مخالفته. وإذا تقرر ذلك فلا يبقى لنا كي نجيب عن هذا السؤال إلا أن نتحاكم لهذه المقدمات الكلية والأصول المحكمة .. لنرى موافقته أو معارضته لما قدمه السائل في أول سؤاله. وبنظرة سريعة خاطفة سندرك الخلاف الضخم بين أول السؤال وآخره. وبيان ذلك أن نقرر قاعدة بطلان كل دين غير الإسلام، فليس الأمر كما قال السائل: (صحيح أن الدين الإسلامي أفضل كما ذكر) !! بل الصحيح أنه الدين الصحيح، وغيره باطل مردود غير مقبول، فإن الله تعالى قد أخبرنا أنه لا يقبل من أحد دينا سواه، قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب. {آل عمران: 19}. وقال سبحانه: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. {آل عمران: 85}.
وهذا هو معنى نسخ الإسلام لما عداه من الأديان. واليهود والنصارى من جملة الكفار الذين يجب دعوتهم لدين الله الحق الذي هو الإسلام، حتى ولو كانوا على شريعة موسى أو عيسى كما أنزلها الله من غير تحريف، كما قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين. {آل عمران: 81}.
حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني. رواه أحمد والدارمي، وحسنه الألباني. ولفظ رواية الدارمي: والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم.
فما بالنا وقد انحرفوا وحرفوا وأشركوا بالله العظيم، كما قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31). {التوبة: 31،30}.
فالإسلام هو الحق المحض، وكل دين غيره باطل، وهذا من ضروريات اعتقاد المسلم، وهو الذي يحركه للدعوة إلى دينه الحق؛ استنقاذا للناس من النار، واستخراجا لهم من الظلمات إلى النور، وانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم مع غلام يهودي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: "أسلم". فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: له أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار". رواه البخاري.
فهذا هو خلاصة الفوز في حس المؤمن، كما قال تعالى: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. {آل عمران: 185}.
فالنجاة والفوز في الآخرة هو أهم الأمور وأعلى المطالب بخلاف حطام الدنيا الزائل، وفي سبيل تحقيق ذلك يهون ما سواه. فمن رحمة الله أن أنزل كتابه وأرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، كما قال تعالى: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. {إبراهيم: 1}.
وإذا تقرر هذا، فهل من الحكمة أو العدل أن يفسح المجال للباطل، بدعوى المساواة بينه وبين الحق، وإتاحة المجال للجميع على حد سواء ؟!
وهل من الرحمة أو الإنصاف أن نتغافل عن مصير الكافرين وخلودهم في النار إذا ماتوا على الكفر؟!
وهل من الأمانة أو العقل أن نسمح لأهل الباطل بعرض باطلهم فيفتنوا ضعاف العقول؟! والله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. {آل عمران: 149}.
وهذا المقام مقام كبير وطويل، ولا يسعنا أن نعطيه حقه من الكلام في مجال الفتوى الذي نحن فيه، ولا يسعنا أيضا أن نهمله ونغفله، ولذلك نكتفي بسرد آيات محكمات من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وندعو السائل الكريم لتدبرها والرجوع لكلام أهل العلم في تفسيرها، فإنها ستفتح له الآفاق وتجلي له الحقيقة:
ـ قال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون * وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون* أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. {المائدة: 48، 50،49}.
ـ وقال سبحانه: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75). {الإسراء: 75،74،73}.
ـ وقال عز وجل: ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. {الأنفال: 8،7}.
ـ وقال تبارك وتعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا* وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. {الإسراء: 82،81}.
ـ وقال عز من قائل: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا * ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا. {الكهف:75،56 ].
وقال تعالى: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون. {الأنبياء: 18}.
وقال سبحانه: ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم. {محمد: 3}.
ثم ننبه أخيرا على أن ما ذكره السائل الكريم يتعارض بشكل صارخ مع شعيرة معروفة من شعائر الإسلام، وهي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم). وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب. وفي رواية: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. رواه أبو داود وأحمد، وصححه الألباني. وعن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا. رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني. وراجع تفصيل ذلك في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 9358 ، 24634 ، 28638