السؤال
جاء في كتاب: اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي علم كل شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله عز وجل بعلمها، وهي المذكورة في قوله عز وجل: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). فهل هذا الكلام صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كل شيء إلا المفاتيح الخمسة لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فعلمت ما في السماء والأرض). وفي رواية: (وتجلى لي كل شيء وعرفت)؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن حديث اختصام الملأ الأعلى حديث صحيح، وقد ذكر الترمذي في كلامه على إحدى رواياته أنه سأل الإمام البخاري عنه فقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد رواه الإمام أحمد ووثق الهيثمي في المجمع رجال أحمد ونقل المزي في تهذيب الكمال عن الإمام أحمد أنه صحح بعض رواياته.
وأما ما ذكر في السؤال فقد ذكره ابن رجب على أنه ورد في بعض الأحاديث فقال ابن رجب: وقد ورد في غير حديث مرفوعا وموقوفا أنه أعطي علم كل شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله عز وجل بعلمها، وهي المذكورة في قوله عز وجل: إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير {لقمان: 34}. انتهى المراد من كلامه.
وقد ذكر أهل العلم أن العموم الوارد في روايات الحديث من العام المخصوص فيراد به ما أذن الله له في علمه مما في السموات والأرض،كما تفيده رواية: فعلمت ما في السموات وما في الأرض، أو يراد به ما أذن الله له في علمه مما يختصم فيه الملأ الأعلى خصوصا. قال المباركفوري في كتابه مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: فتجلى لي كل شيء أي: مما أذن الله في ظهوره لي مما في السموات والأرض مطلقا، أو مما يختصم فيه الملأ الأعلى خصوصا وهذا هو الظاهر. وقد تمسك به بعض القبوريين على أنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بجميع ما كان وما يكون من المغيبات علما كليا تفصيليا محيطا بناء على أن لفظ الكل من ألفاظ العموم والاستغراق وإحاطة الأفراد. ولا متمسك لهم فيه لأن لفظ الكل لا يراد به الاستغراق دائما كما في قوله تعالى: تدمر كل شيء {الأحقاف: 25} وقوله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شيء {القصص: 57} وقوله تعالى: وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق {الحج: 27}... وغير ذلك من الآيات. ولا يخفى على من له أدنى شيء من العقل والفهم أن لفظ الكل في هذه الآيات والأحاديث ليس لاستغراق وإحاطة الأفراد لفساد المعنى في بعضها ولزوم الاستحالة في بعضها، مع ذلك إن حمل على العموم والاستغراق فعلم بذلك أن لفظ الكل لا يكون دائما للاستغراق الحقيقي التام، ولذلك اتفق العلماء على جواز تخصيص ألفاظ العموم كما صرح به في كشف الأسرار وغيره من كتب الأصول حتى اشتهر عند الشافعية ما من عام إلا وقد خص منه البعض.... ومما يدل على عدم إرادة الاستغراق في الحديث، الآيات والأحاديث الصريحة الدالة على نفي علمه صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات من الممكنات، ومما يدل على ذلك أيضا سياق هذا الحديث، فإنه يدل على أن المراد بقوله: تجلى لي كل شيء أي: ظهر وانكشف لي كل شيء مما يتعلق باختصام الملأ الأعلى، لا جميع ما كان وما يكون كما لا يخفى على المتأمل. اهـ.
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين في كتابه: تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس: وليس في ذلك ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم علم على ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، ولا أنه علم مفاتيح الغيب. قال غير واحد ممن شرح الحديث: يحمل ذلك على أن الله سبحانه كشف له عن الأعيان الموجودة إذ ذاك. وهذا هو الظاهر وهو صريح رواية: فعلمت ما في السماء والأرض. ورواية: فعلمت ما بين المشرق والمغرب. وما موصولة، أي فعلمت الذي بين المشرق والمغرب، أي الموجود بينهما، يوضح ذلك لو قلت: دخلت دار فلان فعلمت ما فيها، إنما يتناول علمك الموجود فيها من الأشياء حين دخولك، لا ما يوجد فيها بعد ذلك والله أعلم، ولما ذكر ابن كثير قول بعض المفسرين على قوله سبحانه وتعالى: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض {الأنعام:75}. أنه فرجت له السموات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن، قال: فيحتمل هذا أنه كشف له بصره حتى رأى ذلك عيانا، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة، كما روي الإمام أحمد والترمذي وصححه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه في حديث المنام: أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فذكر الحديث ثم تلا: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين. انتهى.
والله أعلم.