الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية نوجه نظر السائل الكريم إلى أن من تعرض له الوساوس عليه أن يدفعها من حين ابتدائها ولا يسترسل معها، وخاصة إن لم يكن عنده علم كاف في بابها، ولا سيما إن كانت في صميم العقيدة على حد تعبير السائل. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. متفق عليه.
قال ابن حجر: أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها. اهـ.
ولكن إن أورثت الوسوسة شبهة ، لزم صاحبها أن يفعل ما فعله السائل من السؤال والاستدلال لإبطالها، كما نقل النووي عن المازري قوله: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها. قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين، فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه. وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها. اهـ.
وأما بخصوص السؤال، فنبدأ السائل فنقول: هب أن حديثا بعينه من أحاديث المعجزات لم يصح إلا من طريق واحد، أو لم يصح أصلا، فهل في ذلك إشكال ؟! والجواب: لا، ليس هناك إشكال، لأن أصل الإعجاز وجملة المعجزات ثابتة بالتواتر، فضلا عن النظر والاستدلال، وعندئذ فالبحث في ثبوت قصة بعينها لا يمكن أن يأتي على الأصل بالإبطال أو حتى التشكيك، وبالتالي فلا باب للشبهة هنا عند تدقيق النظر.
ولذلك قال القرطبي في (المفهم) عند شرح حديث أنس في نبع الماء: هذه المعجزة تكررت من النبي صلى الله عليه وسلم مرات عديدة في مشاهد عظيمة وجموع كثيرة، بلغتنا بطرق صحيحة من رواية أنس، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وعمران بن حصين، وغيرهم ممن يحصل بمجموع أخبارهم العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، وبهذا الطريق حصل لنا العلم بأكثر معجزاته الدالة على صدق رسالاته صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقال القاضي عياض في (إكمال المعلم): هي إحدى معجزاته المشهورة الغريبة الخارقة للعادة، وقد جاء النقل بها متواترا من حديث أنس وعبد الله بن مسعود وجابر وعمران بن حصين. اهـ.
وقال المازري في (المعلم): معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ضروب، فأما القرآن فمنقول تواترا، وأما مثل هذه المعجزات فلك فيها طريقان، أحدهما أن تقول: تواترت على المعنى، كتواتر جود حاتم وحلم الأحنف، فإنه لا ينقل قصة بعينها في ذلك تواترا ولكن تكاثرت القصص من جهة الآحاد حتى صار محصولها التواتر بالكرم والحلم، وكذلك تواترت معجزات سوى القرآن حتى ثبت انخراق العادة له صلى الله عليه وسلم بغير القرآن. والطريقة الثانية: أن تقول: فإن الصاحب إذا روى مثل هذا الأمر العجيب وأحال على حضوره فيه مع سائر الصحابة ، وهم يسمعون روايته ودعواه ، مع حضورهم معه، ولا ينكرون ذلك عليه، فإن ذلك تصديق له يوجب العلم بصحة ما قال. اهـ.
ونقل ذلك النووي في شرحه لمسلم، وذكر مثله عياض في (إكمال المعلم).
وعقد القاضي عياض في (الشفا) بابا لما أظهره الله تعالى على يدي النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات وشرفه به من الخصائص والكرامات، وقال في أوله: النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الرسل معجزة، وأبهرهم آية، وأظهرهم برهانا كما سنبينه، وهي في كثرتها لا يحيط بها ضبط؛ فإن واحدا منها ـ وهو القرآن ـ لا يحصى عدد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر ... ثم معجزاته صلى الله عليه وسلم على قسمين: قسم منها علم قطعا ونقل إلينا متواترا كالقرآن فلا مرية ولا خلاف بمجيء النبي به وظهوره من قبله واستدلاله بحجته، وإن أنكر هذا معاند جاحد فهو كإنكاره وجود محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وإنما جاء اعتراض الجاحدين في الحجة به فهو في نفسه وجميع ما تضمنه من معجز معلوم ضرورة، ووجه إعجازه معلوم ضرورة ونظرا، كما سنشرحه، قال بعض أئمتنا: ويجري هذا المجرى على الجملة أنه قد جرى على يديه صلى الله عليه وسلم آيات وخوارق عادات إن لم يبلغ واحد منها معينا القطع فيبلغها جميعها، فلا مرية في جريان معانيها على يديه، ولا يختلف مؤمن ولا كافر أنه جرت على يديه عجائب، وإنما خلاف المعاند في كونها من قبل الله، وقد قدمنا كونها من قبل الله، وأن ذلك بمثابة قوله صدقت، فقد علم وقوع مثل هذا أيضا من نبينا ضرورة لاتفاق معانيها كما يعلم ضرورة جود حاتم وشجاعة عنترة وحلم أحنف لاتفاق الأخبار الواردة عن كل واحد منهم على كرم هذا وشجاعة هذا وحلم هذا، وإن كان كل خبر بنفسه لا يوجب العلم ولا يقطع بصحته. والقسم الثاني: ما لم يبلغ مبلغ الضرورة والقطع وهو على نوعين: نوع مشتهر منتشر رواه العدد وشاع الخبر به عند المحدثين والرواة ونقلة أهل السير والأخبار، كنبع الماء من بين الأصابع وتكثير الطعام. ونوع منه اختص به الواحد والاثنان ورواه العدد اليسير ولم يشتهر اشتهار غيره، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى واجتمعا على الإتيان بالمعجز كما قدمناه، قال القاضي أبو الفضل: وأنا أقول صدعا بالحق إن كثيرا من هذه الآيات المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم معلومة بالقطع، أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه ... وكذلك قصة نبع الماء وتكثير الطعام رواها الثقات والعدد الكثير عن الجماء الغفير عن العدد الكثير من الصحابة. اهـ.
وقد عقد القاضي خلال هذا الباب فصلا في نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره ببركته، وقال: أما الأحاديث في هذا فكثيرة جدا، روى حديث نبع الماء من أصابعه صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة. اهـ.
وقال الغزالي في (الإحياء): قد ظهر من آياته ومعجزاته ما لا يستريب فيه محصل، فلنذكر من جملتها ما استفاضت به الأخبار واشتملت عليه الكتب الصحيحة إشارة إلى مجامعها من غير تطويل بحكاية التفصيل .. اهـ.
وذكر من جملة ذلك: نبع الماء من بين أصابعه عليه السلام، وإهراقه صلى الله عليه وسلم وضوءه في عين تبوك وفي بئر الحديبية فجاشتا بالماء.
وذكر العراقي في تخريج ذلك روايات عن جماعة من الصحابة غير من تقدم، وهم: عن ابن عباس وسلمة بن الأكوع والبراء بن عازب وابن أبي أوفى.
والله أعلم.