السؤال
لماذا كانت عقوبة السرقة في الإسلام قطع اليد مع إن الجريمة لا تقارن بالعقاب المسلط ؟، مثلا شرب الخمر هو من الكبائر ولكن عقابه ليس بمثل قساوة قطع اليد.
لماذا كانت عقوبة السرقة في الإسلام قطع اليد مع إن الجريمة لا تقارن بالعقاب المسلط ؟، مثلا شرب الخمر هو من الكبائر ولكن عقابه ليس بمثل قساوة قطع اليد.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد: فبداية لابد للمسلم أن يسلم لحكم الله وهو موقن أنه عين الصواب، المناسب للحجة البالغة، الموافق للحكمة التامة، والتي قد لا تبلغها بعض العقول، فإن قوة إدراكها تتفاوت في ما بين الخلق بحيث يعجز بعضهم عن درك حكمة بعض، فما بالنا بالخلاق العليم، العزيز الحكيم، وفي هذا ملمح لجواب مجمل على سؤال السائلة، قال الإمام ابن القيم في كتابه الفذ (إعلام الموقعين): من شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا هو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، ومن أحاط بكل شيء علما، وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة، كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته، ووضعه كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه، ولا يتقاضى إلا إياه، كما وضع قوة البصر والنور للباصر في العين، وقوة السمع في الأذن، وقوة الشم في الأنف، وقوة النطق في اللسان والشفتين، وقوة البطش في اليد، وقوة المشي في الرجل، وخص كل حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره، فشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه، كما قال تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى، ومن لم يعرف ذلك مفصلا لم يسعه أن ينكره مجملا، ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره في نفس الأمر، وسبحان الله ما أعظم ظلم الإنسان وجهله؛ فإنه لو اعترض على أي صاحب صناعة كانت، مما تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك، وسأله عما اختصت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير، وكيف كان كل شيء من ذلك الوجه الذي هو عليه، لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك، يسخر منه ويهزأ به وعجب من سخف عقله وقلة معرفته، هذا مع تهيئته لمشاركته له في صناعته، ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه، والاستدراك عليه فيها، هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غير مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل، بل ذلك عنده عتيد حاضر، ثم لا يسعه إلا التسليم له والاعتراف بحكمته وإقراره بجهله وعجزه عما وصل إليه من ذلك، فهلا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، ومن أتقن كل شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة، وقد كان هذا الوجه وحده كافيا في دفع كل شبهة وجواب كل سؤال اهـ. ثم قال بعد ذلك رحمه الله: نحن نذكر فصلا نافعا في الحدود ومقاديرها، وكمال ترتبها على أسبابها، واقتضاء كل جناية لما رتب عليها دون غيرها، وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح، ورد أسئلة لم يوردها هذا السائل وننفصل عنها بحول الله وقوته أحسن انفصال، والله المستعان وعليه التكلان اهـ. ثم قدم ـ رحمه الله ـ لذلك بمقدمة ضافية، بين فيها الغاية من الخلق وما فيها من حكمة الابتلاء والامتحان ومقتضيات ذلك ولوازمه، ثم قال: فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض في النفوس والأبدان الأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كل إنسان بما أتاه مالكه وخالقه فلا يطمع في استلاب غير حقه. ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك. ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الخلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا وقدرا، ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال، ثم بلغ من سعة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول قتل وقطع وجلد ونفي وتغريم مال وتعزير اهـ. ثم ذكر رحمه الله كل أصل على حدة، فذكر القتل وموجباته ثم قال: وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلا، وعقوبة السارق، فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل، فكان أليق العقوبات به إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم ... وأما الجلد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع .. وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتها لا تتعدى السكران غالبا، ولهذا لم يحرم السكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي، وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع، بل ضرب فيها بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والجريد، وضرب فيها أربعين، فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أمرنا باتباع سنته، وسنته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلها ثمانين بالسوط، ونفي فيها وحلق الرأس، وهذا كله من فقه السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة، ولم ينسخ ذلك ولم يجعله حدا لا بد منه، فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل اهـ. ثم قال في موضع آخر من الكتاب نفسه: ليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به، فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم، وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عدوانا، ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها، وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبي ذلك، وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا، وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح ... ثم إن في حد السرقة معنى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرا كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون: "فلان ينظر إلى فلان مسارقة" إذا كان ينظر إليه نظرا خفيا لا يريد أن يفطن له، والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء، واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران .. فعوقب السارق بقطع اليد قصا لجناحه وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفا في العدو، ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة، ورجله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحما على وضم فيستريح ويريح اهـ. وقال أيضا: لما كان سرقة الأموال تلي ذلك (يعني الكفر والقتل والزنا) في الضرر وهو دونه، جعل عقوبته قطع الطرف، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد، ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد هذه الجنايات كلها، ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة جعلت عقوبتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور بحسب المصلحة في كل زمان ومكان وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم اهـ. ونزيد هنا الأمر إيضاحا، ونحكمه إيجازا، فنقول: السرقة مفسدتها متعدية على أية حال، فهي في أصلها تعد على حق الغير، بخلاف السكر؛ فإن أصل مفسدته لا تتعدى صاحبها، فجاءت عقوبته مناسبة لقصور ضرره على صاحبه، ولا يشكل على هذا أن السكر قد يجر إلى مفاسد أخرى كالقذف والقتل وسائر أنواع العدوان، لأنها هذا لو حصل فستكون العقوبة مضاعفة، فكل من هذه الجرائم له عقوبته الخاصة، فالقاتل يقتل، والقاذف يجلد، والسارق يقطع. وهذا يعني أن حد الخمر إنما هو لمجرد السكر، فإن انضاف إلى السكر تعد على الغير كانت هناك عقوبة أخرى بحسب نوع التعدي. والله أعلم.