السؤال
هل العادات أو الأعمال الطبيعية المحضة التي فعلها رسول الله عليه السلام أحسن من غيرها على الإطلاق ؟
هل العادات أو الأعمال الطبيعية المحضة التي فعلها رسول الله عليه السلام أحسن من غيرها على الإطلاق ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا ريب في أن الله تعالى جبل نبيه صلى الله عليه وسلم على خير الطباع، واختار له أشرف العادات وأحسنها، فهو أكمل الناس وأرفعهم قدرا في جميع شؤونه صلى الله عليه وسلم، ولهذا استحب بعض العلماء التأسي به في جميع أفعاله حتى ما كان يفعله على وجه العادة والجبلة، ولو لم تكن هذه العادات أفضل من غيرها لما وقع الخلاف هل يستحب التأسي به فيها أو لا؟
وإن كان الجمهور على أن هذه العادات في حقنا مباحة، وممن نص على استحباب التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى فيما فعله على وجه العادة والجبلة أبو حامد الغزالي رحمه الله، قال ابن الحاج في المدخل: وقد قال الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الأربعين له: اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده وحركاته وسكناته حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه لست أقول ذلك في آدابه فقط لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة فيها بل ذلك في جميع أمور العادات فبه يحصل الاتباع المطلق كما قال تعالى ! ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) ! وقال تعالى ! ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). فلا ينبغي أن تتساهل في امتثال هذا فتقول هذا مما يتعلق بالعادات فلا معنى للاتباع فيه فإن ذلك يغلق عنك بابا عظيما من أبواب السعادات. انتهى باختصار.
ولا شك في كون عاداته صلى الله عليه وسلم كانت الأفضل في البلد الذي كان يعيش فيه والزمن الذي كان يعيش فيه صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا اختلفت البلدان أو الأزمان فهل تكون هذه العادات هي الأفضل في حق كل أحد، أو يقال إن الأفضل هو اتباع عادة أهل البلد التي لا تخالف الشرع؟
الراجح الثاني: ولا يخلو من يتبع عادة بلده من أن يكون متبعا للسنة فإنه متبع للنبي صلى الله عليه وسلم في جنس فعله وإن لم يكن متبعا له في نوع هذا الفعل.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس في تحرير مسألة الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله عادة، وحاصله أن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم يشرع في جنس تلك الأفعال لا في أنواعها، فإنه إنما أكل ما أكل ولبس ما لبس لكونه المأكول والملبوس في بلده، فيختلف الأفضل في حق كل أحد باختلاف البلد الذي يقيم فيه، والأولى له أن يوافق عادات قومه وأهل بلده، ويكون بذلك متأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أرشدنا بفعله إلى هذا.
وبهذا يتبين أن الأفضل في حق كل أحد يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وأن الأولى أن يتابع عادات أهل بلده ما لم تخالف الشرع، وهذا طرف من كلام الشيخ رحمه الله يتبين به ما ذكرناه: وأيضا فالاقتداء به يكون تارة في نوع الفعل وتارة في جنسه، فإنه قد يفعل الفعل لمعنى يعم ذلك النوع وغيره لا لمعنى يخصه فيكون المشروع هو الأمر العام. مثال ذلك احتجامه صلى الله عليه و سلم فإن ذلك كان لحاجته إلى إخراج الدم الفاسد ثم التأسي هل هو مخصوص بالحجامة ؟ أو المقصود إخراج الدم على الوجه النافع ؟
ومعلوم أن التأسي هو المشروع فإذا كان البلد حارا يخرج فيه الدم إلى الجلد كانت الحجامة هي المصلحة، وإن كان البلد باردا يغور فيه الدم إلى العروق كان إخراجه بالفصد هو المصلحة.
وكذلك ادهانه صلى الله عليه و سلم : هل المقصود خصوص الدهن أو المقصود ترجيل الشعر ؟
فإن كان البلد رطبا وأهله يغتسلون بالماء الحار الذي يغنيهم عن الدهن والدهن يؤذي شعورهم وجلودهم يكون المشروع في حقهم ترجيل الشعر بما هو أصلح لهم، ومعلوم أن الثاني هو الأشبه.
وكذلك لما كان يأكل الرطب والتمر وخبز الشعير ونحو ذلك من قوت بلده فهل التأسي به أن يقصد خصوص الرطب والتمر والشعير حتى يفعل ذلك من يكون في بلاد لا ينبت فيها التمر ولا يقتاتون الشعير بل يقتاتون البر أو الرز أو غير ذلك، ومعلوم أن الثاني هو المشروع، والدليل على ذلك أن الصحابة لما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده، ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصد أقوات المدينة ولباسها، ولو كان هذا الثاني هو الأفضل في حقهم لكانوا أولى باختيار الأفضل.
ومن هذا الباب : إن الغالب عليه وعلى أصحابه أنهم كانوا يأتزرون ويرتدون فهل الأفضل لكل أحد أن يرتدي ويأتزر ولو مع القميص ؟ أو الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء هذا أيضا مما تنازع فيه العلماء والثاني أظهر وهذا باب واسع. انتهى.
والله أعلم.