الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمسلك أهل الحق أن أدلة الشرع لا تتعارض، فكلها حق من عند الله، كما قال تعالى: ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. {النساء: 82}.
وهذا يوجب علينا في فهم أدلة الشرع أن نرد المتشابه إلى المحكم، كما قال عز وجل: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب. {آل عمران: 7}.
وهذه النصوص التي أوردها السائل الكريم، يمكن أن تقابل بما يخالفها في الظاهر، كقول الله تبارك وتعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما. {النساء: 48}.
وقوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا. {النساء: 116}.
فهذا نص صريح في التفريق بين الشرك وبين ما دونه من الكبائر.
وعلى ذلك تدل السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام وهي المبينة للقرآن، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. ثلاثا ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه. قال المنذري: رواه البزار والطبراني ورواته رواة الصحيح. اهـ. وصححه الألباني.
وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار يعني من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب .... قال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان إنما معناه لا يخلد في النار، وهكذا روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وقد فسر غير واحد من التابعين هذه الآية (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته). فقال: من تخلد في النار فقد أخزيته. اهـ.
وفي حديث الشفاعة المشهور أن الله تعالى يقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون. فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا ثم يعودون. فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا. فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة وإلى جانب الشجرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنة فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. متفق عليه.
وغير ذلك كثير، والحق أن هذه الأدلة غير متعارضة، وإنما كل منها له محمله الذي يليق به، فأهل الإيمان المستقيمين عليه، وكذلك أهل الكفر، لا إشكال في مصيرهم، فهؤلاء في الجنة وأولئك في النار، وأما أهل المعاصي من الموحدين فهؤلاء اجتمع في حقهم ما يوجب العقاب مع ما يوجب الرحمة، فتوحيدهم يوجب رحمتهم، ومعصيتهم تحق عليهم العقاب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي. متفق عليه. فأهل المعاصي معرضون للعقوبة إلا إن عفا الله تعالى عنهم، ورحمته تعالى وسعت كل شيء.
وأما ما أورده السائل من نصوص تدل على خلود بعض أصحاب المعاصي في النار أو عدم دخولهم الجنة، فيجب فهمها في ضوء بقية النصوص حتى تأتلف ولا تختلف، فأما آية سورة الفرقان فقال ابن جزي في (التسهيل لعلوم التنزيل): قيل نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع، فكأنه قال: الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا. وقيل: نزلت في المؤمنين الذين يقتلون النفس ويزنون، فأما على مذهب المعتزلة فالخلود على بابه، وأما على مذهب أهل السنة فالخلود عبارة عن طول المدة. اهـ.
وأما الجواب عن قاتل النفس بغير حق وخلوده في النار فقد سبق بيانه في عدة فتاوى سابقة، فراجع الفتاوى التالية أرقامها: 1940، 36835، 36858، 48774، 57998.
وأما بقية الأحاديث فقال شيخ الإسلام النووي في (شرح مسلم): فيه الجوابان المتقدمان المتكرران في نظائره، أحدهما: أنه محمول على المستحل لذلك إذا مات على ذلك فإنه يكفر ويخلد في النار. والثاني: معناه فقد استحق النار ويجوز العفو عنه، وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): اختلف في تأويل ذلك في حق المسلم، فقيل: لا يدخل الجنة مع أول الداخلين، وقيل لا يدخلها بدون مجازاة، وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه، وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ وظاهره غير مراد. اهـ. وراجع الفتويين: 13087، 21480 .
هذا وننبه السائل الكريم على أن مثل هذه المسائل جديرة بالمدارسة والتفصيل والتأصيل، وهذا لا يتسع له مقام الفتوى، ولذلك ننصحه بأن يقرأ كتاب (الإيمان) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والله أعلم.